بعيدًا عن ردود الفعل الفولكلوريّة وحتى الغوغائيّة للبعض، وبعيدًا عن المواقف والتصاريح الكلاميّة التي لا تُقدّم ولا تؤخّر، الأكيد أنّ إعلان الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ الإعتراف بمدينة القُدس عاصمة ل​إسرائيل​، يُشكّل إستفزازًا مُتعمّدًا لعدد كبير من الدول والجهات والمواطنين، وهو يحمل العديد من الخلفيّات والأهداف. ما هي؟

بعض المُحلّلين الغربيّين بسّط المسألة إلى حد إعتبارها مُجرّد وفاء بوعد إنتخابي كان قد قطعه ترامب قبل إنتخابه رئيسًا، علمًا أنّ الرئيس الأميركي الحالي ماض قُدمًا بتنفيذ مُختلف الوعود التي قطعها خلال حملته الإنتخابيّة، حتى تلك الجريئة والإستفزازيّة منها. ورأى هؤلاء أنّ ترامب يلعب أمام الأميركيّين على وتر أنّه الرئيس القوي الذي يعد ويُنفّذ من دون أي خوف أو مُراوغة، مُعتبرين أنّ خطوته بشأن القُدس تصب في هذه الخانة، خاصة وأنّه يعتقد أنّ الإعتراضات لن تتجاوز حُدود الغضب الشعبي والتظاهرات المُتفرّقة لفترة قصيرة وبعض الإعتداءات المُتفرّقة على المصالح الأميركيّة في العالم، لا أكثر، وذلك بسبب الإنقسامات العربيّة والإسلامية على مُختلف المُستويات، وبسبب حاجة الفلسطينيّين والدول العربيّة و​تركيا​ والعديد من الدول الإسلاميّة إلى ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة وعدم قُدرة هؤلاء على إعتراض قرارات ​واشنطن​.

من جهة أخرى، رأت مجموعة أخرى من المُحلّلين الغربيّين أنّ قرار ترامب بشأن ​القدس​ يُمثّل خطوة مُتهوّرة ثانية على المُستوى الإستراتيجي في التاريخ الأميركي الحديث، بعد الخطوة الإستراتيجيّة المُتهورة الأولى التي كانت قد تمثّلت بقرار الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش إجتياح ​العراق​ وإسقاط نظام الديكتاتور العراقي الراحل ​صدام حسين​، على أمل إستبداله بنظام حليف للولايات المتحدة الأميركيّة على الحُدود مع ​إيران​، لتأت النتيجة النهائية لهذه الخطوة مُعاكسة تمامًا، حيث وضعت إيران يدها على العراق وتسلّلت منه إلى عمق العديد من الدول العربيّة المُجاورة! ويعتبر هؤلاء أنّ خطوة ترامب لا تقلّ سوءًا عن خطوة بوش، لأنّها ستُقويّ المحور المُتشدّد والمُعارض ل​أميركا​ الذي تقوده إيران في ​الشرق الأوسط​، وستضعف موقف الدول العربيّة المُعارضة ل​طهران​، وستسمح أيضًا بتعاظم النُفوذ الروسي في المنطقة على حساب تراجع النُفوذ الأميركي، أي أنّ ما سيحدث هو عكس ما يُخطّط له ترامب لجهة مُحاصرة النفوذ الإقليمي الإيراني، وإضعاف النُفوذ الدَولي الروسي، وسيؤدّي أيضًا إلى إفشال خططه بشأن التوصّل إلى تسوية شاملة وكاملة ونهائيّة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين!

لكن وإضافة إلى النظريّات المذكورة أعلاه، تُوجد نظريّات أخرى مُغايرة، تُفسّر خطوة الرئيس الأميركي الإستفزازيّة والمُتعمّدة برأيها، من زوايا مُختلفة تمامًا. وفي هذا السياق، يعتبر بعض المُحلّلين أنّ خطوة ترامب تهدف إلى إحداث صدمة كبيرة، وحتى إلى توتير الأوضاع ميدانيًا، لدفع كل من الفلسطينيّين والإسرائيليّين إلى طاولة المُفاوضات مُجدّدًا، بضغط دَولي كبير وذلك بحجّة إعادة الهدوء والإستقرار إلى المنطقة. ويضيف هؤلاء أنّ ترامب يُريد أيضًا طمأنة الجانب الإسرائيلي إلى وُقوف الإدارة الأميركيّة بشكل مُنحاز كليًا إلى إسرائيل في التسوية التي يُريد التوصّل إليها، أو حتى فرضها بالقوّة، من خلال الضغط على الفلسطينيّين لدفعهم إلى المُوافقة على بنودها التي لا تعترف بحدود العام 1967، ولا بالقُدس الشرقيّة عاصمة للدولة الفلسطينيّة المنشودة، وذلك في مُقابل تنازلات إسرائيليّة تُركّز على رفع مُستوى حياة الفلسطينيّين من النواحي الإقتصادية والمعيشيّة والحياتيّة عُمومًا.

ومن بين النظريّات المطروحة على طاولة النقاش والتحليل بشأن خطوة ترامب الإستفزازيّة المُتعمّدة، أنّ الرئيس الأميركي يسعى إلى إستدراج مُواجهة تُقودها إيران للتخلّص ممّا يعتبره عبئًا جاسمًا على صدر الإدارة الأميركيّة، ويتمثّل بالإتفاق غير المُتوازن الذي وافقت إدارة الرئيس الأميركي السابق ​باراك أوباما​ عليه بشأن برنامج طهران النووي. ويُخطّط الرئيس ترامب – بحسب هذه النظريّة، لإفتعال مُشكلة كبرى مع إيران تخوّله الإنسحاب من الإتفاق، وإعادة رسم التوازنات السياسيّة في الشرق الأوسط وفق إعتبارات جديدة مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في السنوات القليلة الماضية.

في الختام، وبغضّ النظر عن كل هذه التحاليل والنظريّات المُختلفة وحتى المُتضاربة، لا شكّ أنّ قرار ترامب الأخير فتح صفحة جديدة على صعيد الوضع السياسي في الشرق الأوسط، مع وُجود مخاطر أن يتحوّل التوتّر الحالي المُتصاعد إلى توتّر أمني. والأكيد أنّ الأسابيع المُقبلة ستحمل بعضًا من الأجوبة للخلفيّات والأسباب الفعليّة للخطوة الأميركيّة بشأن القُدس، والتي لا يُمكن الجزم بأي منها في المرحلة الحالية.