في تسعينات القرن الماضي، حاولت الإدارة الأميركيّة إنهاء النزاع العربي-ال​إسرائيل​ي المُستمرّ، وهي حقّقت نجاحًا جزئيًا على الخط الأردني-الإسرائيلي (مع توقيع إتفاق "وادي عربة" في العام 1994)، وكذلك على الخط الفلسطيني-الإسرائيلي (مع توقيع "مُعاهدة ​أوسلو​" في العام 1993، وإتفاق "غزّة-أريحا" في العام 1994، وإتفاق "طابا" في العام 1995، إضافة إلى إتفاقي "واي ريفر" في العامين 1996 و1997). لكنّ مسار التفاوض بين ​سوريا​ وإسرائيل والذي كان إنطلق في مؤتمر مدريد 1991 فشل في نهاية المطاف على الرغم من تسجيل بعض التقدّم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مسار التفاوض ال​لبنان​ي الذي كان في حينه مُجرّد ورقة بيد الجانب السوري. واليوم، تُحاول الإدارة الأميركيّة بقيادة الرئيس ​دونالد ترامب​ تمرير تسوية جديدة للقضيّة الفلسطينيّة، تكون مدخلاً لإنهاء حال العداء العلني بين إسرائيل وأغلبيّة الدول العربيّة. فهل ستنجح؟.

لا شك أنّ الظُروف والمُعطيات والتوازنات إختلفت كليًا عمّا كانت عليه قبل نحو ربع قرن، وحتى أسلوب مُقاربة التسوية المُحتملة مُختلف تمامًا من قبل الجانب الأميركي. فالرئيس ترامب يعمل على فرض تسوية بالقوّة، مُستفيدًا من ضعف الجانبين الفلسطيني والعربي، ومن الخلافات العربيّة-ال​إيران​يّة. ففي حقبة التسعينات نجحت إيران عبر دعمها الكامل للجماعتين الإسلاميّتين المُتشدّدتين، أي كل من حركتي حماس و​الجهاد الإسلامي​، في إضعاف "مُنظّمة التحرير الفلسطينية" وفي إفشال الكثير من الإتفاقات بواسطتهما، خاصة بعد أن فشلت مُفاوضات السلام غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل بسبب خلافات متعدّدة أبرزها بشأن بحيرة طبريّة وحدود خط الإنسحاب الإسرائيلي. واليوم، ينطلق الرئيس الأميركي في مُحاولته لفرض تسوية شاملة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، من خطّة كان وضعها فريق عمل بقيادة وزير الخارجية الأميركي السابق ​جون كيري​، وهي تقضي بمنح الفلسطينيّين دولة مُستقلّة، لكنّ هذه الدولة أو الدُويلة، غير مُتواصلة جغرافيًا، بل مُقطّعة الأوصال، وعاصمتها ليست في ​القدس​ لا الغربيّة ولا الشرقيّة، بل في بلدة "أبو ديس" في ضواحي القُدس. والأهمّ أنّ هذه الدُويلة الفلسطينيّة لن تستوجب تفكيك أي مُستوطنات إسرائيليّة، ولن تكون دولة بقُدرات عسكريّة مُهمّة، ولن يُسمح لها بأن تستقبل أيّ لاجئين فلسطينيّين من خارج حُدودها. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ هذه الخطّة حائزة على مُوافقة إسرائيل، وتُحاول ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة تمريرها لدى القيادة الفلسطينيّة من خلال إغرائها بمجموعة ضخمة من المُساعدات المالية التي سيتم جمعها من العديد من الدول العربيّة والغربيّة لنقل مُستوى حياة ​الشعب الفلسطيني​ إلى مُستوى مُختلف تمامًا عمّا هو عليه حاليًا. وعلى الرغم من الصورة القاتمة التي أحدثها إعلان الرئيس ترامب الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإنّ الهدف من الرفع المُتعمّد لمُستوى التوتّر، هو جلب مُختلف الأطراف إلى طاولة المُفاوضات من جديد، وكذلك الإنطلاق من سقف تفاوضي مُرتفع مع القيادة الفلسطينيّة، قبل تقديم بعض التنازلات الجزئيّة في مرحلة لاحقة.

وفي مُقابل المشروع الأميركي القاضي بتسوية "القضيّة الفلسطينيّة" والذي من المُرجّح أن يُترجم بخطوات عمليّة على الأرض في العام 2018 المُقبل، تقتصر المُواجهة الحالية لمشروع الدُويلة الفلسطينيّة المُتقطّعة على الخطابات والمُزايدات الكلاميّة التي لا تُقدّم ولا تؤخّر، وعلى بعض تظاهرات الشغب-كما حصل أمس في ضواحي السفارة الأميركيّة في عوكر حيث كان المُشاغبون يُخرّبون مُمتلكات خاصة وعامة ويتعرّضون لقوى الأمن اللبناني بدون أيّ مُبرّر، وحتى على بعض الإستعراضات الشعبيّة في الشوارع، والإستعراضات العسكريّة-الرمزيّة على الحدود الجنوبيّة. وليس بسرّ أنّ الإدارة الأميركيّة الحاليّة تعمل على إستغلال الخلافات العربيّة-الإيرانيّة المُتفاقمة لتمرير مشروعها بدون عراقيل، حيث أنّ الدول العربيّة والخليجيّة الخائفة على أمنها ونفوذها من التمدّد والتغلغل الإيراني الأمني والسياسي في ربوعها، ليست في موقع يسمح لها بمُعارضة الإدارة الأميركيّة ومشاريعها في المرحلة الراهنة، وأولويّاتها تبدّلت كليًا نتيجة العداوة المُتصاعدة مع إيران. وهذه الأخيرة تُحاول جاهدة حاليًا، إعادة إحياء علاقاتها الأمنيّة والسياسيّة السابقة مع الجماعات الإسلاميّة الفلسطينيّة المُتشدّدة، بعد التصدّعات الكبيرة التي لحقت بها نتيجة التموضع في مواقع مُتواجهة بشراسة خلال الحرب السوريّة، علمًا أنّ الحصار الذي فرضته إسرائيل لسنوات طويلة على غزّة أنهك ​حركة حماس​ التي رضخت للضُغوط في الأشهر الماضية وسلّمت ​معبر رفح​ الحُدودي مع مصر، ومختلف معابر غزّة إلى السُلطة الفلسطينيّة، بإشراف أمني مصري. وبالتالي، في حال وافقت القيادة الفلسطينيّة على أي تسوية فإنّ قدُرة عرقلتها من الداخل، أي من القوى الفلسطينيّة خارج السُلطة، هي اليوم أصعب بكثير ممّا كانت عليه قبل ربع قرن.

ويبقى بيد إيران خيار إسقاط مُحاولات فرض التسوية، عبر العمل من خارج الحُدود، أي عبر تفجير مُواجهة شاملة مع إسرائيل، ولعلّ إعلان زعيم "عناصر أهل الحق" المُنضوية ضمن "​الحشد الشعبي​ العراقي"، الشيخ ​قيس الخزعلي​، من ​كفركلا​ في الجنوب، الجُهوزيّة لمُؤازرة "​حزب الله​" إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة، هو رسالة بهذا المعنى. لكنّ تحويل هذه الرسالة من إستعراض إعلامي إلى واقع ملموس ميدانيًا، يعني دُخول لبنان وسوريا وإيران من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، في مُواجهة غير مسبوقة يمكن توقّع بدايتها لكن لا يُمكن تقدير نهايتها إطلاقًا.