محوت أكثر من مقدّمة لهذا المقال ولم أجد صيغةً جديدةً مقنعةً للكتابة في ​القدس​ وفلسطين. إنتابني شعور بالعجز الكامل والضيق حيث ردود الفعل في بلدان العرب والمسلمين تكاد توحّدهم أمامي من جديد لكن بالكلام والصراخ على الشاشات مثقلة بالتردّد والقلق والضياع والهروب من الرتابة في الكتابة أوالتعبير وهذه مشاعر قهّارة عارمة تأخذك بيدك إلى العجز الفاضح في التغيير والتأثير. ماذا يعني الإحتجاج والشجب والإدانة والرفض والتأسّف والتنديد والتحذير والرفض وعدم التأييد والإستنكار؟ ماذا يعني القول بأنّ ما حصل وصمة عار تستوجب بحث التطورات والتبعات الخطرة التي تنذر بالمخاطر والغضب الساطع الآتي؟

الجواب: لا شيء.

قلت: هناك أمال كبرى في المستقبل. يجب إنتظار أجيالنا الجديدة الباحثة عن العدالة والتغيير والتي هضمت الغرب بعدما نشأت في الشرق وإمتهنت السياحة في الأرض.

لهذه الأسباب وغيرها، كان مصير تلك المقدّمات كلّها سلّة الDelette أمامي على الشاشة. قد يكمن السبب الأقوى هو أن ما رسم لفلسطين التي ولدت معها في ال4819 صار حقيقة مرّة فصلاً إثر فصل، إلى حدود تعميمها أنموذجاً دموياً مؤلماً متنقّلاً في بلاد العرب والإسلام لتتشابه الجروح والمصائب ومشاهد الفوضى وإنشغال الأذهان والأجيال. وأجازف متجاوزاً الكتابة والتظاهر والتنديد أمامي متسائلا: هل أنّ مصير القدس والعروبة والأديان وبعض الدول أوالمدن العربيّة مشابه لمصير هذه المقدّمات التي أضعتها ؟

وكإنّ ما رسم للقدس صار واقعاً منذ أن أخضعتها "إسرائيل" بالقوّة والإحتيال الى ما يخالف منطوق القرار الدولي بتقسيم فلسطين( 181تاريخ 29 نوفمبر1947) حيث بقيت القدس عربيّة في النص أي خارج القسم اليهودي (53 بالمئة)، مروراً بإحتلالها الكامل في حرب ال1967 بعدها راحت "إسرائيل" تمطّ مساحة المدينة وأدمنت تهجير الفلسطينيين منها وقضم أراضيها بالمستوطنات إلى حدود تفكيك خارطتها السكّانية وتشويه معالمها العربيّة والإسلامية والمسيحية ومحوها من الذاكرة عبر الأجيال لا من الصور.

ما نفع الكتابة والتظاهر وحرق الإعلام والصور أمام الواقع المتخم بالتحديّات ونحن في حالة متخمة بالبلاء والعجز؟

لماذا رسوت أخيراً على هذه المقدّمة الوجدانية؟

1- لأعترف وأتصوّر بأنّ العديد من العرب والمسلمين المنقوعين بمصائبهم ، ربّما لم ولن يخلدوا مثلي الى النوم لأنّ مصير المدينة المقدّسة في زمن الحروب والتنازع العالمي على مفاهيم القداسة قد قرع بإستحقاقه الخطر عبر وسائل الإعلام وبقوّة العيون والآذان الكلمة/ الوعد المعلن والمقيم في لسان الرئيس الأميركي دونالد ترامب منذ حملته الإنتخابيّة بنقل سفارة بلده الى القدس لتصبح العاصمة الأبدية ل"إسرائيل". صحيح أنها لازمت ألسنة رؤوساء أميركا لكنها ثابتة مع ترامب الذي يعد ويوفي بوعده.

2- كان لا بدّ من المتابعة والإنتظار للتذكير الأكثر إيلاماً بأننا لطالما كنّا على هذه الحال منذ تلمّسنا العجز المتنامي الدامي وتفاقمه. أمس أي في 2 من نوفمبر الماضي 2017، كنا نحتفل عرباً ومسلمين مفكّرين وكتّاباً وبخجل فاضح لم أفهمه بذكرى مرور مئة عام على الوعد الرهيب الذي أطلقه آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا ( في 2 نوفمبر1917) إلى المصرفي اليهودي والعضو في حزب المحافظين البريطاني ليونيل والتر روتشيلد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وشكل بداية إعلان دولة "إسرائيل"(14 أيّار 1948)، وهو اليوم نفسه الذي أعلنت فيه بريطانيا نهاية انتدابها على فلسطين. منذ ذلك التاريخ أرضعنا أباؤنا فكرة أنّنا في حالة حرب وهي حالة تستلزم وسلوكاً وثقافة وإستراتيجيات متقدّمة ومواقف كبرى.

3- لأنّ إبنتي ريّا المقيمة في لندن كتبت لي عبر"الواتس أب" وبإلحاح وقلق لافتين غير مألوفين لدى بنات وأبناء جيلها من الشباب تسألني بلغةٍ أجنبيّة عن رأيي في ما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن القدس، وما إذا كان الأمر يهزّني وما هي تداعياته على لبنان والعرب والعالم. وقد شكت أنّ متابعة ما يحصل من تناقضات في الخطب والآراء عبر وسائل الإعلام تزيد من الإبهام في الموضوع تصل الى حدّ الفوضى. كنت عند إتّصالها قد باشرت كتابة المقدّمة في الموضوع عينه مستغرقاً بمتعة الربط بين ما نحن فيه من إنهيارات وأفكار أطلقها إبن خلدون في مقدّمته تفسيراً للوعد الثاني الذي رفعته الحمّى الإعلامية والشعبيّة الى مستوى الوعد الأوّل بإنتزاع فلسطين من أهلها. وكان التصوّر بأنّ الإعلان في ظاهره سيكون بمثابة هزّة قويّة ستؤدي الى تنامي الغضب والعنف وإعادة توحيد المشاعر الفلسطينية والإسلامية وتضافر القلق العالمي من مضاعفة الأعمال الإرهابية.

4- أين هو العصب العربي؟ إنّه في حالة إرتخاء.

في الفصل الثالث من المقدّمة التي تلتها مجلّداته السبع، تطرّق إبن خلدون الى الدول والملك والخلافة ومراتبها وأسباب وكيفية نشوئها وسقوطها معطياً العصبية المكانة الكبرى في حياة الدول والممالك رابطاً هذه العصبيّة بشكلٍ محكم بعلاقات تقوى وتضعف تبعاً لدرجات القرابة النسب. عندما يضيع النسب ويصبح الولاء متجاوزاً العائلة الى القبيلة قد تختفي العصبيات التي قد تضيع أيضاً في المدن، وتتهددها شدّة الإختلاط إذ تفسد الإنساب عندها بالجملة. ويرى بأنّ العصبية تطول وتشتدّ ويمكن توريثها على إمتداد 120 سنة أي أربعة أجيال، وهذا ما استنتجه من خلال دراسته العينية الدقيقة للسلالات الإسلامية التي حكمت الأندلس، والغرب، والشرق التي عاصر العديد منها، بل وكان وزيراً لدى بعضها، ودخل السجن أيضا وهذا ما منح نصوصه القدرة على الجذب والإقناع لأنّه خبر بما جعله عارفاً عمّا يكتب وكأنّه درس نظام الحكم من داخل مسجّلاً بأم عينيه ما شهده من المناورات والمؤامرات السياسية.

أين هو النسب والعصب العربي اليوم؟