المغتصبة لأرض ​فلسطين​ العربية منذ عام 1948 كان بمثابة الزلزال الذي هزّ المجتمعات العربية والإسلامية والدولية وأدّى إلى تداعيات ونتائج غاية في الأهمية:

أولاً: كشف الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأميركية بأنها لا تقلّ عداء للحقوق العربية في فلسطين ودعماً وانحيازاً لكيان الاحتلال في فلسطين، وأنّ أميركا ليست على الحياد أو وسيطاً، كما حاول المراهنون على المفاوضات أن يوهموا أنفسهم ويقنعوا به الرأي العام لتبرير السير في المفاوضات. فأميركا تثبت من خلال هذا الإعلان، بأنها كانت تخدع هؤلاء المراهنين على التسوية وأنّ سياستها كانت ولا زالت تقوم على دعم كيان الاحتلال وتمكينه من تحقيق أهدافه عبر توفير كلّ المناخات المواتية لفرض مخططاته ومشاريعه. وهذا الإعلان يتوّج الدعم الأميركي غير المحدود للكيان الصهيوني عسكرياً ومالياً وسياسياً ودبلوماسياً.

ثانياً: توجيه ضربة قاصمة لحلّ الدولتين، والتأكيد مجدّداً لمن راهن على أوسلو لإقامة دولة فلسطينية في ​الضفة الغربية​ و​قطاع غزة​ وعاصمتها القدس، أنّ أوسلو كان شركاً أميركياً «إسرائيلياً» استدرجت إليه منظمة التحرير، وكانت نتيجته إلهاء الفلسطينيين بمفاوضات عقيمة مجرّد ملهاة على مدى 25 عاماً تمكّن خلالها الكيان الصهيوني من الحصول على اعتراف منظمة التحرير بشرعية احتلاله لأرض فلسطين التي احتلت عام 48 وإبقاء الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس مناطق متنازع عليها خاضعة للتفاوض. فيما نجح هذا الكيان بالاستفادة من المفاوضات والتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والاحتلال بموجب أوسلو، وقام ببناء عشرات آلاف المستعمرات في الضفة والقدس وجلب مئات آلاف المستوطنين إلى فلسطين المحتلة.

ثالثاً: تأكّد بشكل لا شكّ فيه أن لا سبيل أمام الفلسطينيين سوى المقاومة المسلحة والانتفاضة الشعبية الحاضنة للمقاومة، اللغة الوحيدة التي يفهمها المحتل والمستعمر، وأنّ خيار المقاومة أثبت أنه هو الأكثر واقعية والأقصر لتحرير الأرض واستعادة الحقوق. ولهذا فقد أدّى إعلان ترامب إلى إشعال ​الانتفاضة الفلسطينية​ الثالثة التي كانت أصلاً ناراً تحت الرماد وتنتظر حدثاً لتتفجر. وبسرعة منقطعة النظر اتسعت رقعة الانتفاضة لتشمل كلّ أرض فلسطين التاريخية وتوحّد من جديد نضال وكفاءة الفلسطينيين للتأكد أنّ الوحدة الحقيقية إنما تتحقق في ميدان التصدّي للاحتلال.

رابعاً: أسهم إعلان ترامب في كيّ الوعي العربي فاستفاق الشارع العربي بكلّ فئاته وتلاوينه واضعاً حداً للنتائج السلبية التي تمخّضت عن سنوات الحرب الإرهابية التكفيرية الأميركية الصهيونية التي أدخلت العرب في حروب استنزفت قدراتهم ودمّرت مقدّراتهم وأبعدتهم عن قضية فلسطين، وكان كيان العدو يراهن عليها، وبدعم أميركي، من أجل التمكن من تصفية القضية وتطويب كامل فلسطين للصهاينة وتحويل القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني وجعل الدولة الصهيونية «دولة طبيعية» في المنطقة.

خامساً: سقوط الرهان الصهيوني الأميركي على يأس الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وأنّه لن يتحرّك في أعقاب قرار ترامب، وكان يتصوّر البعض في دوائر صنع القرار في واشنطن أنّ ردة الفعل العربية والإسلامية ستكون ضعيفة وكذلك كان تقدير المعلقين الصهاينة، لكنهم فوجئوا بردّة الفعل العارمة. لم يتوقعوا أن يحصل هذا التضامن العارم في العواصم والمدن العربية والإسلامية كلها. كما سقط الرهان على جعل شعوب العالم تنسى فلسطين وقضيتها العادلة فاندلعت تظاهرات عارمة في العواصم العالمية لا سيما في دول ​أميركا اللاتينية​، فيما لم تبقَ دولة في العالم إلا وأعلنت رفضها ومعارضتها لقرار ترامب ودعت إلى التراجع عنه، ووجدت الولايات المتحدة نفسها في حالة من العزلة الدولية الشاملة، والتي عبّر عنها بوقوف جميع أعضاء ​مجلس الأمن الدولي​ الـ 14 ضدّ القرار الأميركي.

يجب أن يؤدّي ما حصل إلى إنتاج مرحلة جديدة تكون بمستوى انتفاضة الشارع العربي في فلسطين والدول العربية وانخفاض ​العالم الإسلامي​ والدولي، تؤسّس لإعادة توحيد الموقف حول خيار المقاومة وإسقاط الخيارات السابقة التي راهنت على حلّ الدولتين والمفاوضات.

مَن تابع ردود الفعل يلحظ أننا أمام انتفاضة شعبية عربية انتفاضة شعبية في كلّ الدول العربية، مسلمين ومسيحيين، وتظاهرات في كلّ العواصم والمدن العربية، إجماع شعبي عربي يعانق الانتفاضة الثالثة التي اشتعلت في فلسطين ويزيد من زخمها، الأمر الذي جاء مخالفاً لتوقعات ترامب ومستشاريه، وأيضاً جاء مخالفاً لتوقعات الصهاينة.

والواضح أنّ شروط تفجر واستمرار الانتفاضة الثالثة باتت متوافرة، وهي ليست مجرد احتجاج أو ردّ فعل مؤقت سينتهي بعد يومين أو ثلاثة أو أسبوع، لكن ما هو مطلوب أن تكون هناك مقاربة سياسية فلسطينية جديدة تقوم على بلورة مشروع وطني تحرّري يشكل قطيعة مع المسار السابق لصالح خيار الانتفاضة والمقاومة، لا سيما أنّ خيار التفاوض ثبت فشله وبات الاستمرار فيه يعني الاستسلام لقرار ترامب الذي لم يترك للشعب العربي إلا خيار المقاومة لردّ العدوان وحماية عروبة القدس وتحرير فلسطين.

المشروع السياسي التسووي أسقطه ترامب بقراره، والمشروع البديل هو مشروع المقاومة والانتفاضة، وكلّ كلمة تقال يجب أن تصبّ في خدمة تعزيز وتزخيم ودعم والانتفاضة والمقاومة وتوحيد الصف، والتركيز على إيجابيات ما حصل من نهوض شعبي منقطع النظير لم يسبق له مثيل في تاريخ الصراع مع كيان العدو الصهيوني والتضامن مع نضال وكفاح الشعب العربي في فلسطين.

من هنا يمكن القول إنّ القدس أعادت البوصلة نحو فلسطين واستنهاض الأمة وشعوب العالم، وأشعلت الانتفاضة، ووجّهت ضربة قوية للاحتلال الذي أُصيب بصدمة لم يتوقّعها، كما لم يتوقّع الأميركي أن يجد نفسه وحيداً، في مجلس الأمن والعالم أجمع لتُمنى السياسة الأميركية بهزيمة هي الأولى لناحية أثرها وتداعياتها على مكانة وهيبة الولايات المتحدة في العالم. في وقت مُنيت حربها الإرهابية في سورية والعراق بهزيمة مدوّية، وانتصر محور المقاومة وحليفه الروسي وإسقاط أحلام أميركا وكيان الاحتلال الصهيوني بإسقاط سورية وإقامة نظام تابع لأميركا والقضاء على المقاومة وعزل الجمهورية الإسلامية الإيرانية وروسيا والصين وإعادة تعويم مشروع الهيمنة الأميركي على العالم وتمكين الكيان الصهيوني من تصفية ​القضية الفلسطينية​ والإعلان عن الدولة الصهيونية العنصرية وعاصمتها القدس. ولهذا فإنّ قرار ترامب جاء بنتائج عكسية لما كانت تسعى إليه كل من واشنطن وتل أبيب. لا سيما أنه أعلن في أجواء انتصارات محور المقاومة التي أسهمت في تغيير موازين القوى في المنطقة والعالم في مصلحة تعزيز خيار المقاومة والانتفاضة في فلسطين واستنهاض الأمة للدفاع عن عروبة فلسطين التي تشكّل قلب الأمة وعنوان نضالها التحرري وحماية وحدتها وعروبتها.