لم تمرّ ساعات على إعلان رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ أنّه "فخور جدًا" بالعمل مع مجلس وزراء "وضع نفسه في خدمة ​لبنان​ واللبنانيين، واتّخذ قرارًا تاريخيًّا بالنأي بالنفس عن مشاكل المنطقة"، على حدّ تعبيره، حتى كانت "​كتلة المستقبل​"، التي عقدت اجتماعًا لها برئاسته، تدلي بدلوها في ما أسمته بـ"العدوان الحوثي على المملكة العربية ​السعودية​"، معتبرةً أنّه "انتهاكٌ صارخٌ للقوانين الدولية والمواثيق العربية".

في المقابل، وجد "​حزب الله​" في مناسبة "مضيّ 1000 يوم على بدء العدوان السعودي الأميركي على ​اليمن​ وشعبه" فرصةً ليدلي هو الآخر بدلوه، مدينًا ما أسماه "الإصرار السعودي على مواصلة العدوان"، ومطالبًا بـ"وقف هذه الحرب الظالمة والغاشمة والعمل على إيجاد حل سياسي شامل وسريع"، متوجّهًا للشعب اليمني "المظلوم والمقاوم والمجاهد" بالتأكيد أنّ "عاقبة الصبر النصر".

وبين هذا وذاك، يبقى السؤال، هل خرج "المستقبل" و"حزب الله" عن النأي بالنفس بمواقفهما هذه؟ ولماذا الإصرار من قيادتيهما على التعبير العلنيّ عن هذه المواقف في مرحلةٍ هي حرجة أساسًا؟

مجرّد رأي...

في المبدأ، لا شكّ أنّ حق التعبير عن الرأي في أيّ قضيّةٍ، بمُعزَلٍ عن طابعها، وسواء كانت قضية محلية أو إقليمية أو دولية، هو حقٌ طبيعيّ وبديهيّ كفله الدستور اللبنانيّ لجميع المواطنين اللبنانيّين، بغضّ النظر عمّا إذا كانوا مستقلّين أو منتمين إلى أحزاب سياسية في الموالاة أو في المعارضة. وبالتالي، فإنّه لا يجوز تحميل تعبير أيّ فردٍ لبنانيّ عن رأيه الصريح من قضيّةٍ إقليميّة بحجم حرب اليمن أكثر ممّا يحتمل، سواء من هذا الفريق أو من ذاك.

وفي المبدأ والمنطق أيضًا، فإنّ إعلان الأحزاب السياسية، من "حزب الله" إلى "تيار المستقبل" وغيرهما، عن مواقفها المعروفة أصلاً من صراعات المنطقة لا يُعَدّ خروجًا عن مبدأ "النأي بالنفس" الذي أقرّته ​الحكومة اللبنانية​ في بيانها الشهير، الذي عاد رئيسها سعد الحريري عن استقالته بموجبه، ووُصِف بأنّه "انتصارٌ كبيرٌ" هلّل له الجميع. والسبب الأساسيّ لذلك هو أنّ النأي بالنفس، اصطلاحًا، يعني عدم التدخّل المباشر في أزمات الآخرين، ولا سيما على الصعيد العسكريّ، وهو لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال حرمان الأفرقاء من أن يكون لهم رأيهم ومقاربتهم الخاصة لأزمات المنطقة، شرط عدم الدخول على خطّها والتأثير على مجرياتها بشكلٍ فاعل.

لكن، وبعيدًا عن المبادئ والثوابت، وحتى عمّا يفرضه المنطق، فإنّ الالتباس المحيط بهذه القضية له مبرّراته أيضًا، انطلاقاً من حالاتٍ مشابهة حصلت سابقًا، حين اتُهِم "حزب الله"، على سبيل المثال، بتعكير علاقات لبنان مع دول "شقيقة" بسبب إعلان أمينه العام السيد ​حسن نصرالله​ الصريح عن مواقفه، سواء على خلفيّة الأزمة السوريّة أو اليمنيّة. وقد وصل الأمر إلى حدّ فرض عقوباتٍ على لبنان، بما فيها تجميد الهبة السعودية الشهيرة للجيش، بسبب مواقف السيد نصرالله، وقد ذهب بعض الأفرقاء السياسيين يومها إلى حدّ مطالبته بالاحتفاظ بمواقفه لنفسه، كونها تشكّل ضررًا على لبنان ككلّ بصورةٍ عامةٍ، وعلى اللبنانيين المقيمين في ​دول الخليج​ بصورةٍ خاصّة، وهو ما ليس مستبعدًا أن يتكرّر اليوم أيضًا.

مصلحة متبادَلة

​​​​​​​عمومًا، وسواء اعتُبِرت مواقف كلّ من رئيس الحكومة و"حزب الله" من مستجدّات الصراع اليمني خروجًا على ​سياسة النأي بالنفس​ أم لا، فإنّ الأكيد أنّها لم تأت من عبث، بل إنّ الجانبين حرصا على إظهارها بالشكل الذي خرجت به ليس لغايةٍ في نفس يعقوب، وإنما انطلاقاً من المصلحة بذلك، وهي مصلحة تكاد أن تكون متبادَلة إلى حدّ بعيد، من حيث إيصال رسالة لكلّ من يعنيه الأمر بأنّ أيّ انقلابٍ لم يحصل في مقاربتهما لأحداث المنطقة.

فمن ناحية الحريري، لا يخفى على أحد أنّ رئيس الحكومة أراد من جهة أن يؤكّد على متانة علاقته بالسعودية، بعد "غيمة الصيف" التي طرأت عليها في الآونة الأخيرة، وما يُحكى عن "شبه طلاق" واقع بينهما، خصوصًا بعد أزمة استقالته والعودة عنها، التي لم يُعرَف إن كانت منسّقة مع السعودية أم لا، علمًا أنّ هناك من يقول إنّ تراجع الحريري عن "بقّ البحصة" التي وعد بها أتى بفعل ضغوطٍ سعوديّة، في وقتٍ كان لافتاً تأكيده في كلمةٍ له قبل أيام أنّ علاقته بالقيادة السعودية "ممتازة". ومن جهة ثانية، لا شكّ أيضًا بأنّ الحريري، من خلال تأكيده المؤكد في ما يتعلق بموقفه من السعودية واليمن، أراد أيضًا أن يقطع الطريق سلفاً على "المزايدين" عليه الذين يروّجون لمقولة أنّه لم يعد فقط يوفّر الغطاء لـ"حزب الله"، بل بات شريكًا وحليفًا له، منغمسًا في سياساته.

وفي المقابل، فإنّ لا شكّ أنّ بيان "حزب الله"، الذي قد تكون قيادته انتظرت موقفًا من "تيار المستقبل" قبل الخروج به، حتى لا يؤخذ عليها أنّها من كسرت "النأي بالنفس"، لم يأتِ فقط لتأكيد المؤكد من مواقف "الحزب" المعروفة، وهو الذي يجاهر بانخراطه في محورٍ إقليميّ واسع يمتدّ من لبنان إلى ​إيران​ مرورًا ب​سوريا​ و​العراق​. فبالاضافة لهذا الهدف، يمكن القول إنّ "حزب الله" سعى من خلال هذا البيان لتأكيد استمراره بما كان يفعله سابقاً لجهة تعبيره عن رأيه، بمعنى أنّ قرار "النأي بالنفس" لم يكن انكسارًا أو هزيمةً له، كما حاول البعض تصويره، خصوصًا أنّ السيد نصرالله كان قد سبق أن نفى أيّ تواجد عسكريّ للحزب في اليمن، ما يعني أنّ ما قبل بيان "النأي بالنفس" الشهير هو كما بعده.

بدعة لبنانية؟!

إذا كان بيان "النأي بالنفس" الشهير قد لقي حفاوة واسعة لدى إقراره من جميع المكوّنات اللبنانية، وإن رأى فيه كثيرون نسخة طبق الأصل وغير منقّحة حتى عن ​إعلان بعبدا​ المنبوذ من أغلب هذه المكوّنات نفسها، فإنّ كلّ المؤشّرات توحي أنّ مصيره لن يكون أفضل حالاً من ذاك الذي سبقه.

وحتى لو كان مصطلح النأي بالنفس بحدّ ذاته "بدعة لبنانية" لا أكثر، فإنّ كلّ المعطيات تؤكد أنّ "الانتصار" الذي تحقق بتكريسه لم يكن أكثر من "مقتضيات" صمود الحكومة، بحدّ أدنى من الإحراج للحريري والسعودية في آن، وليس أكثر من ذلك...