ينشط سعاة الخير على خط المقرات الرئاسية الثلاثة في سبيل نزع فتيل الأزمة التي نشأت بين الرئيسين ​ميشال عون​ و​سعد الحريري​ من جهة، والرئيس نبيه برّي من جهة ثانية، على خلفية مرسوم ​ترقية ضباط​ «دورة عون» 1994، في ظل مناخات تؤكد حرص أطراف النزاع على حصر الخلاف بالمرسوم ذاته, وعدم امتداده بشكل يؤدي إلى اشتباك واسع يطال مواضيع أخرى، أي بمعنى الحرص على الابتعاد عن أي خطوات تنبش معها القبور، لأن ذلك سيكون له مردود سلبي على الاستقرار العام الذي تحصّن بفعل حكمة الرئاستين الأولى والثانية في معالجة أزمة الاستقالة.

وإذا كان الرئيس برّي قد ترك للرئيس عون ان يعالج الموضوع «رغم أهميته البالغة» ورفضه الخوض في الحديث عن المرسوم امام زواره من النواب وغير النواب، فإنه لم تبرز في الساعات الماضية أية مؤشرات توحي بإمكانية معالجة هذه الأزمة والحؤول دون تفاقمها، لا بل ان كل المعطيات تؤكد بأن تأمين المخرج اللائق لها بما يحفظ ماء وجه الجميع غير متوافرة حتى هذه اللحظة، غير ان ذلك لا يعني ان مفاعيل هذه الأزمة ستكون مقلقة إلى حدّ الخوف من الوصول إلى تفجير الحكومة، سيما وان كفة التفاؤل بحل هذه المشكلة ما تزال هي المرجحة وتتقدّم على كفة القلق والتوتر.

وإذا كانت الأمور كذلك فإن تساؤلات كثيرة تفرض نفسها حول كيفية الحل, ومن هي الجهة التي سيكون في مقدورها ابتداع صيغة هذا الحل، خصوصاً وان الرئيس عون يبدو انه غير مستعد لسحب توقيعه، والعودة عن قراره، وفي المقابل فإن الرئيس بري لن يقبل بفرض أمر واقع عليه وهو المتمسك بآلية الدستور والصلاحيات ويعبر عن ذلك في الكثير من المحطات التشريعية حيث يسحب من جدول أعمال أي جلسة تشريعية أي مشروع قانون غير موقع من الوزير المختص، أي كان هذا الوزير، وسُجّلت له في هذا السياق سوابق كثيرة، حيث كان يرفض طرح مثل هذه المشاريع على النقاش وردها إلى الحكومة ليتمكن الوزير المختص من التوقيع عليها.

وأمام هذا الواقع، فإن مَن سيقوم بمهمة الاطفائي لن تكون دربه مزروعة بالورود والرياحين، بل ستكون وعرة وسيواجه مطبات قوية في سبيل الوصول إلى المخرج المناسب لهذه الأزمة، ويقال في هذا المجال ان ​اللواء عباس إبراهيم​ لم يمانع القيام بهذه المهمة إذا طُلب منه ذلك، من منطلق انه الجهة الأكثر ضمانة في مقاربة الأمور الخلافية وتفكيك ألغام الأزمات، وهو نجح في معالجة كل المشاكل التي أُوكل إليه حلها.

وفي هذه الحال، لا يُمكن اغفال دور «​حزب الله​» في إطفاء الحريق المندلع بين حليفيه، وإذا كان يتعامل مع هذه الأزمة كمن يمسك العصا من الوسط، فإنه يحرص، وفق مصادر قريبة منه، على العمل للوصول إلى تسوية ترضي الجميع، وهو يرى في تجميد نشر المرسوم عاملاً مساعداً في هذا الاتجاه، غير ان مصادر وزارية سابقة تجزم بأن حزب الله لن يستطيع «المَوْنة» على الرئيس برّي لتمرير المرسوم وهو العليم بأن رئيس المجلس ليس في الموقع الذي يتهاون فيه في مسائل دستورية وميثاقية، وهو امام هذا الواقع لن يتقدّم بأية مقترحات تزعج، ولو واحداً بالمئة، الرئيس برّي ويفضل البقاء في موقع الوسط ، إن لم نقل الحياد في مثل هكذا قضية.

وفي تقدير هذه المصادر، ان رئيس الجمهورية ذهب بعيداً في التوقيع على المرسوم لأنه كان يظن بأن ما قام به في ما خص الاستقالة وما تبع ذلك من مواقف حيال ​القدس​ والقرار الأميركي سيسهل له تمرير هذا المرسوم، ولم يكن في وارد الاصطدام بموقف الرئيس برّي الذي تعامل مع هذا الموضوع من ابعاد ميثاقية لا سياسية، ويُبرر له الانزعاج من عدم توقيع وزير المال على المرسوم لأن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدور الشيعة في الحكم، فبدل ان تكون الطريق معبدة امام رئيس الجمهورية دخل في مأزق حقيقي من الصعب التكهن في كيفية الخروج منه، اللهم الا إذا اتفق الجميع على وضعه على الرف بانتظار المخرج الملائم لذلك، أو إيجاد صيغة حل تأتي من ​قيادة الجيش​.

وترى هذه المصادر، ان لا حل سريعا لأزمة المرسوم، وان اتخاذ الرئيس برّي قرار ترك أمر المعالجة لرئيس الجمهورية يدل على حرص رئيس المجلس على تجنب معركة سياسية مع الرئاسة الأولى في هذه الظروف الدقيقة، من جهة، وترك الكرة في ملعب السلطة التنفيذية على قاعدة مَثَل مشهور للرئيس برّي يطلقه في محطات كثيرة، ومفاده ان «من طلّع الحمار على المئذنة هو من ينزله».

وتبدي المصادر انزعاجاً كبيراً مما تعتبره سابقة خطيرة من الكلام الذي قيل بأن ضباط دورتي عامي 1995 و1996 يبدون استياءً من إعطاء رفاقهم اقدمية سنة، لما لهذه الخطوة من تأثيرات سلبية على التراتبية، وتلويحهم بإعداد طعن يقدم لدى ​مجلس شورى الدولة​ في حال نشر المرسوم، داعية - أي المصادر الوزارية السابقة - إلى ابعاد ​المؤسسة العسكرية​ عن المشاكل السياسية، وتجنب أي خطوة قد تؤدي إلى إيجاد شرخ داخل هذه المؤسسة الضامنة للأمن والاستقرار في البلد، خصوصا وان هناك من يقول بأن دورة 1994 هي مَن سيتولى بعد وقت القيادة في الجيش، وبذلك تصبح غالبية القطاعات هي «عونية».

وفي هذا السياق، فإن مصادر سياسية متابعة ترى انه في حال كان الرئيس عون يدري بأن هذه المسألة ستؤدي إلى مشكلة مع الرئاسة الثانية فإن ذلك مصيبة، وان كان لا يدري فهي مصيبة أكبر، خصوصا وان المشكلة هي ميثاقية لها علاقة بالتوقيع عبر وزير المالية، وان تمرير المرسوم بمعزل عن هذا التوقيع يظهر وكأن هناك استهداف لمكون أساسي في البلد.

وإذ ترى هذه المصادر بأن الأزمة كبيرة ومفتوحة، ومن الممكن ان تذهب إلى منحى أبعد قد يصل إلى انسحاب فريق من الحكومة وبالتالي اسقاطها، فإنها تعتبر ان الحل يكون بأحد امرين: الأول بأن يتراجع الرئيس برّي ويغض النظر وهو أمر مستحيل ولو على قطع رأسه، خصوصا وان الموضوع يتعلق بالميثاقية والصلاحيات والاخلال بالتوازن. وإما ان يتراجع الرئيس عون وهو أمر صعب، وبالتالي فإننا امام مشكلة كبيرة، كون ان ما جرى يُشكّل سابقة خطيرة تُهدّد مصير المؤسسات الحاكمة جميعها.

وتطرح المصادر جملة تساؤلات في ما لو تمسك عون بالمرسوم الذي بات يتعامل معه على انه أصبح نافذاً لأنه في اعتقاده لا يحتاج إلى نشر في ​الجريدة الرسمية​، ومن بين هذه الاسئلة: هل يبقى الرئيس برّي عبر ممثليه في الحكومة؟ هل يسلم بهزيمة مصادرة التوقيع الشيعي؟ هل يجلس جانباً ويترك الأمور تسير من دون تدخل؟

في الإجابة على السؤال الأوّل فإنه من الممكن الانسحاب من الحكومة، اما الجواب على باقي الأسئلة فحكماً لن يسلم رئيس المجلس بالهزيمة، ولن يجلس جانباً، وهو ما زال ينتظر من الفريق الآخر الإقدام على خطوة التراجع عن الخطأ فضيلة، وإلا فليتحمل كل واحد مسؤولية ما يفعله.