لماذا توفّق ​أوروبا

تستوقفنا منذ العام 2016 وقبله ظاهرة الإحتفاء الأوروبي الكبير والملحوظ بإبن خلدون (1332-1406 ) المولود في تونس بلد إنطلاقة "​الربيع العربي​" وبما يتجاوز بكثير إهتمام أهله من العرب والمسلمين. حلّت المناسبة ذكرى مئوية وفاته بكونه صاحب فلسفة حياة الحضارات وباني نظرية العوامل الإقتصادية وعلاقات الإنتاج في حياة الدول وإزدهارها. لا يتّسع المقام حتّى لذكر بعض المؤلّفات والدراسات وأعداد الصحف الخاصة والمقالات والمقابلات والمؤتمرات التي تناولت صاحب"المقدّمة" في ​فرنسا​ وهولندا وإلمانيا وكندا وإسبانية وغيرها.

قد لا يرى البعض في الأمر غرابة لأنّ مفكّري أوروبا هم الذين إكتشفوا في القرن التاسع عشر أهميّة إبن خلدون الى جانب من هم من وزنه مثل إبن رشد والفارابي وغيرهم عندما راحوا يحقّقون مخطوطاتهم ويترجمونها ويدرّسونهم على مقاعد المعاهد والجامعات بعدما كانت تلك المخطوطات تباع بما يقابل أوزانها ذهباً في العصر الوسيط عند رواج حضارة النسخ. قد يعزو البعض هذا الإهمال العربي إلى إعتياد المفكرين العرب وصم حضارتهم وبلادهم بالجمود والإنحطاط المتأصلين وهذا ليس بجديد لكنّ الحروب الضخمة العاصفة التي هبطت تباعاً فوق جسد العرب أورثت هذا العقل العربي المعاصر المزيد من المغالاة والإرتجاليّة في جلد الذات.

دفعتني متابعة هذه الظاهرة وأدبياتها الى السؤآل الكبير: من يسقط أوّلاً:الشرق أم الغرب؟

لا جواب بالطبع... لكن لنذكّر ونعترف :

1- بنى إبن خلدون برجاً فكرياً في أساس علم العمران البشري والإجتماع السياسي إذ شبّه حياة الأمبراطوريات والسلالات بالبشر تولد وتنمو ولها حياتها وقوانينها الخاصة وهي قد تصل الى فوق لكنها تشيخ وتموت فاسحةً

المجال لإمبراطوريات أخرى بعدما تمرّ في خمسة أطوار: الإستيلاء على الملك، الإستبداد، الرخاء، القناعة والمسالمة، الإسراف والتبذير، الإنحدار وزوال الملك إذ يظهر ملك جديد يمرّ بالأطوار نفسها.

2- كتب المؤرّخ البريطاني آرنولد توينبي(1889-1975) صاحب الكتاب الضخم" دراسة للتاريخ" HistoryStudy of أنّ إبن خلدون قد" صاغ فلسفةً للتاريخ هي أعظم ما توصّل إليها الفكر البشري في مختلف العصور والأمم".

وأعلن تأثّره بأبن خلدون آخذاً عنه تفسير نشوء الحضارات الأولى التي رصدها في إحدى وعشرين لم يبق منها سوى سبع تعصف بها أسباب الإندثار هي الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية، والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية، والهندوكية، والصينية، والكورية - اليابانية؛ أمَّا السابعة، أي الحضارة الغربية، فهو لم يقرّر مصيرُها النهائي حتّى جاء صموئيل هنتغتون الأميركي ناسخاً الأفكار عينها مع بعض التعديلات الموجّهة التي تضع العالم في وجه العرب والمسلمين أو ربّما بالعكس.

3- برع الفيلسوف الإلماني أوزوالد شبنغلر( 1880- 1936) خلافاً لتوينبي عندما سحب نظرية إبن خلدون على الغرب، معلناً سقوط الحضارة الأوروبية في كتابه بالإلمانية Der Untergang des Abendlandes والذي ترجم إلى العديد من اللغات ومنها العربية بعنوان: "تدهور الحضارة الغربية"، تناول فيه صعود الحضارات وإزدهارها، وأفولها الحتمي لأنّ أعمارها محدودة وفقاً لتاريخ الحضارات في العالم تماماً مثل الكائنات الحيّة التي تنمو وتموت وفق دورة طبيعية، لكنّه وقع في خطأ عند تناوله لصعود الحضارات وسقوطها عندما ربط الحضارة بالمعايير الثقافية الواسعة لا الوطنية بمعانيها وأحجامها الجغرافية والسياسية.

4- يمكن الإعتراف بأنّ الأسس النظرية والمقولات التي إعتمدها إبن خلدون في حياة الدول وموتها قد أسقط الزمن الكثير من حجارتها وجعلها قابلة للدحض بفعل التطوّر الهائل الذي حقّقته البشرية بعد شيوع العلوم وعولمة الجامعات والأبحاث والإختلاط الهائل على مستوى العالم وتعقيدات العولمة الإقتصادية والثورة الموغلة في عصر الفضاء اللامتناهي الذي يستحيل تحديد مستقبله بعد. وأكثر من ذلك، فقد وصلنا الى عصر من الغرائب الفاقعة يمكن فيه قبول نظريات وتجارب تدحض لا العصبية التي بنى عليها إبن خلدون بل مقولات القرابة الدموية التي تدحضها بنوك الدم شائعة أو البنوك التناسلية أو تأجير الأرحام الشائع في أوروبا وغيرها ممّا ينسف مفاهيم النسيج البسيط في

العلاقات العائلية والعرقية والدينية والمهدّدة بإنهيار العلاقات بين أبناء الدولة الواحدة والدول الأخرى في المجتمعات المعاصرة

بالفعل، لماذا هذا الإهتمام اليوم بإبن خلدون؟.

يستمدّ السؤآل أهميّته بالعودة الى الصحوة الدينية والمذهبية التي تضاعف من عدم إستقرار الدول والحضارات المحكومة بعناوين مثل ​الإرهاب​ و​الإسلاموفوبيا​ والفوضى الخلاّقة والتي تسكن عقل الغرب بحثاً عن إسلام التنوير!!!

كيف؟

ينظر العقل الأوروبي الى إبن خلدون نموذجاً عربيّاً مقنعاً للتوفيق بين الأصولية والحداثة الغربيّة التي قد يرى فيها العرب بديلاً مغرياً ومطلوباً في زمنٍ يشدّ على العرب مناخ "صراع الحضارات" الدموي. ويروّج الفكر المتناغم بين ساحلي المتوسط الشمالي والجنوبي لهذه التوليفات مستنداً إلى إبراز إبن خلدون في عين الغرب عائماً فوق محيطات الفلسفة بما لم يجعله يغرق الى المستوى الذي يجعله في الذاكرة العربيّة جانحاً عن طريق الدين وهو لم يكن من أنصاره المتشدّدين بقدر ما كان فقهيّاً ولاهوتياً وفقاً للتسمية الفرنسيّة تحديداً. يعبّد إستدعاء إبن خلدون الى عصرنا مرافقاً "ثورات العرب" بين قوسين، دروب التوفيق الوعرة بين العلم والإيمان أو بين العقل والدين، وهذا أقصى ما يشتهي الغرب تحقيقه في دنيا العرب بالفكر والحوار والمسايرة أو بالقوة والخراب والمكابرة. وتصبح المقولة بأنّ الفلسفة توصل الى الكفر والإلحاد على ما يظنّ المتشدّدون هزيلة على إعتبار أنّ دراسة الظواهر الفيزيائية أو الطبيعية قد تحطّ بنا في دنيا اللاهوت والميتافيزيقا وترتفع بالدارسين إلى مستوى الإيمان.

يمكن نقد هذا الفكر الغربي ناظرين من متنوّري العرب حلّ العلاقات المتشنّجة بين العرب والمسلمين والغرب والمجاهرة بأنّ التوفيق بين عصور التنوير العربي والإسلامي في القرن الرابع عشر عندما كان الإنحطاط يلفّ أوروبا وإستنساخ عصر التنوير الغربي في القرن الثامن عشر، بأدوات القرن الواحد والعشرين مسألة مستحيلة، لأنّها تهمل مقولات الإقتداء والإنبهار بالغالب والإستعداء والإنتماء في علاقات الشعوب والثقافات بين تخلّفها وتقدّمها في حقبٍ معقّدة مختلفة.