في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة مع الله، وكان الكلمة الله...

وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا (يو11و14).

بهذه الكلمات العميقة حلّق الإنجيلي يوحنا كالنّسر في سرّ الإبن المتجسّد، الذي كان مع الله الآب منذ البدء، وبه خُلِقَت السماوات والأرض، كلّ ما يُرى وما لا يُرى، وبغيره ما كان شيءٌ مِمّا كان"(يو1:3).

يسوع هو كلِمة الله كونه كان منذ الأزل أي منذ ما قبل الزمن، ويكون إلى الأزل أي إلى ما بعد انتهاء الزمن. والكلمة يسوع الذي كان منذ البدء مع الله، صار في "ملء الزمن"(غلا4:4) جسداً "وحلَّ بيننا"(يو1:14).

ومن الآن وصاعداً، لم يَعُد بإمكاننا الحديث عن الله الساكن في أعلى السماوات، والإنسان الساكن في أسفل الأرض. ولم يعُد بمقدورنا بالتالي أن نتحدَّث عن إلهٍ مُتعالٍ وعن حَدٍّ فاصلٍ ما بين الله والإنسان، الألوهيّة والإنسانية. فبالتجسّد، ثمّة عنصر جديد اُضيف إلى طبيعة الله هو الإنسانية، فتوحَّد اللاهوت بالناسوت أي طبيعة الله بطبيعة الإنسان، فأعطى الله طبيعته الروحيّة للإنسان وأعطى الإنسان طبيعته الجسدية لله. تبادلُ عجيب وتناقضٌ مُحَيِّر صَعب الإدراك. فكيف يحدثُ هذا، ولِما هذا التبادل، وما حاجة الله إلى أن يصير إنساناً وهو الله؟!.

نستلّ الجواب من مسرحية "ناطورة المفاتيح" للأخوين رحباني! يدعو الملك زاد الخير إلى أن تصعد إلى حيثُ هو. يقول لها: "زاد الخير...اطلَعي اطلَعي... "فتقول له هذه الأخيرة: "لأ إنت انزل... هون الشوك غطّى الشوارع لازمنا حدا يدعّسو، انزل"، فيُجيبها الملك: "الملك ما بينزل"، فتقول له زاد الخير: "والشعب مش رح يطلع"، سيناريو جميل بإمكاننا الإستعانة به لشرح تنازل الله إلى إرض البشر؛ فلو لَم ينزل الملك إلى تَحت، لَما صَعدنا إلى فوق، هذه هي قصّة التجسّد والخلاص بكاملها.

ولأنّ الملك الإبنَ نزل، صَعِدنا نحنُ، ومن دون نزوله إلينا لَما كان لنا سبيل للوصول إلى الآب: "لأننا به، أي بالإبن، نلنا الوصول إلى الآب"(أف2: 18) وبه، نِلنا نعمة التبنّي حتى أنّ" كل الذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله" (يو 1: 12).

الحكمة الإلهية هي حكمةٌ بقدر ما تتصاغر، وتُقدّم ذاتها في كامل التواضع والصِّغَر، لا بالكبرياء والتبجُّح والقوّة. لَم يأتِ الله إلى العالم ليَلوي ذراع الإنسان ويتفوّق عليه في كامل القوّة، بل أتى صغيرًا لنستطيع أن نفهمه ونقبله ونحبه، فيرتقي بِنا إلى كامل الإلوهة.

فلنتبّه لعظمتنا، ولنتذكّر أننا شريكون في أصل الزيتونة ودَسَمِها أي في الطبيعة الإلهيّة، ولنسلك كأبناء النور نحنُ الذين انتُشلِنا من ظلال وادي الموت، فيُشرِقُ علينا على الدوام مجد الله، ذاك المجد الذي أشرق على الرُعاة والمجوس فعاينوا وجه الله.