لم يكن العام 2017 الأفضل بالنسبة لرئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​، فالتسوية الرئاسية التي صمدت طول العام رغم كلّ الهزّات الارتدادية التي تعرّضت لها أفقدته الكثير من الامتيازات التي لطالما تمتّع بها، خصوصًا بعدما استطاعت أن تقلب كلّ الموازين والمعادلات في البلاد، بل أن تنهي الانقسامات التقليدية التي عُرِفت بها، ما جعل تأثير كتلته النيابية محدودًا وليس حاسمًا كما كان عليه الحال لسنواتٍ خلت.

اليوم، وعشيّة انتخاباتٍ نيابيّةٍ جديدةٍ، لا يخفى على أحد أنّ "البيك" يجهد لاستعادة دوره السابق، فبعدما شهدت علاقته "التاريخية" مع رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ تراجعاً دراماتيكيًا خلال 2017، تشير كلّ المعطيات إلى أنّها عادت لطبيعتها، في وقتٍ يحرص الرجل على فتح خطوط مع جميع الأفرقاء من دون استثناء، ولو خرج على إجماع "حلفائه" على عزل فريقٍ من هنا أو معاقبة آخر من هنالك...

خصوصيّة للجبل

خلال الأسبوع الماضي، شهدت دارة النائب وليد جنبلاط في كليمنصو لقاءين استثنائيّين جمعه الأول مع رئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجية جبران باسيل وعقيلته، وأخذ بعدًا عائليًا، فيما ضمّه الثاني إلى رئيس الحكومة سعد الحريري، الرجل الذي شهدت علاقته بـ"البيك" خلال العام الذي أوشك على نهايته توتّرًا قد لا يكون مسبوقًا منذ انطلاقة الحريري في مسيرته السياسية خلفًا لوالده، وهو لم يحصل حتى يوم اختار جنبلاط "الطلاق" مع ثورة "​14 آذار​" التي كان جزءًا أساسيًا منها إلى جانب الحريري.

كُتِب الكثير عن اللقاءين ومعانيهما ودلالاتهما. قيل إنّ الكيمياء "ركبت" بين جنبلاط وباسيل، وأنّ اللقاء يأتي تمهيدًا وتأسيسًا لتقاربٍ قد يتوسّع في المرحلة المقبلة، وقيل إنّ اللقاء مع الحريري "طبيعيّ"، وأنّ المواضيع الحكوميّة والماليّة والاقتصاديّة كانت الطبق "الدسم" على مائدته. قيل أيضًا، وهذا طبيعيّ، إنّ الانتخابات النيابية المنتظرة في 2018 لم تغب عن اللقاءين، وذلك انطلاقاً من رغبة النائب جنبلاط بتسويق فكرة ائتلاف شامل يخوض الانتخابات على أساسه في الجبل، ولا يعزل أو يستثني أحدًا من المكوّنات الأساسيّة، ولا سيّما "​القوات اللبنانية​"، احترامًا لما يسميّه خصوصيّة الجبل، بل إنّ هناك من يقول إنّ جنبلاط يعطي الأولوية لتحالفه مع "القوات" إذا لم ينجح مثل هذا الائتلاف في أن يبصر النور.

ولعلّ "بيت القصيد" للقاءات "الجنبلاطيّة" يكمن هنا، إذ تشير المعلومات إلى أنّ الرجل الذي "جسّ النبض" خلال لقاءي كليمنصو الأخيرين، يستعدّ للعب دورٍ فعليّ للتمهيد للتحالف الانتخابيّ الذي يسعى إليه، ويقضي هذا الدور بتقريب وجهات النظر بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" من جهة، وبين "​تيار المستقبل​" و"القوات اللبنانية" من جهة ثانية. ويرى جنبلاط أنّه، بهذه الطريقة يستطيع أن يضرب أكثر من عصفورٍ بحجرٍ، فهو من ناحية يعزّز فرص اللائحة التي يسعى لتشكيلها في "احتكار" تمثيل الجبل، كما كان يفعل في ظلّ النظام الأكثريّ، مستفيدًا من شرط حصول أيّ لائحة على الحاصل الانتخابي للفوز بأيّ مقعد، وهو من ناحية ثانية يستعيد دور "الحَكَم" و"الوسيط" بين الجميع، وهو ما يريد أن تكرّسه الانتخابات المقبلة.

الانتخابات بوّابة...

هكذا، يبدو واضحًا أنّ الانتخابات النيابية حضرت بثقلها في لقاءي كليمنصو مع كلّ من الحريري وباسيل، فإذا كان الأخير لا يزال متمسّكًا بفكرة "التحالف الخماسيّ" الذي يعتبر أنّه يشكّل مصلحة أكيدة لـ"التيار الوطني الحر" في الانتخابات النيابية، فإنّ جنبلاط كان واضحًا في المقابل بأنّه لا يريد أن يكسر أو يعزل أحدًا، انطلاقاً من خصوصيّة الجبل.

إلا أنّ العارفين يدركون أنّ وراء كلام "البيك" ما هو أبعد من هذه الخصوصيّة، ويتعلق بخصوصيّته هو الذي يريد أن تكون الانتخابات النيابية المقبلة بوّابةً لاستعادة دوره كرئيسٍ لكتلةٍ معتدلةٍ قادرةٍ على الوقوف في خطّ الوسط، بمُعزَلٍ عن طبيعة الاصطفافات التي تشهدها البلاد. ويدرك جنبلاط أهمّية استعادة هذا الدور بالنسبة لبيئته خصوصًا، بعدما شعر الكثيرون أنّ كتلة "اللقاء الديمقراطي"، التي كانت كلمتها هي الراجحة في البرلمان، باتت خلال العام 2017 هامشيّة، ولا تأثيرات تُذكَر لها على الوضع العام، بل باتت كتلة "ملحقة" في أفضل الأحوال، تتلقّى ما يقرّره الآخرون، ويتّفقون عليه. ويكفي للدلالة على ذلك شعور جنبلاط نفسه بالخسارة المدوية خلال مرحلة المفاوضات حول قانون الانتخاب، ما دفع العديد من الأفرقاء لمحاولة طمأنته عبر القول بأنّهم لن يقبلوا السير بأيّ قانونٍ لا يوافق هو عليه.

وإذا كانت "عين" جنبلاط على الانتخابات النيابية المقبلة لاستعادة دوره الوازن الذي عُرِف به سابقًا، فإنّ الأكيد أنّه بدأ يمهّد لذلك منذ فترةٍ طويلةٍ، بعدما أيقن ضرورة عدم الاستسلام لواقعه الحاليّ، وحرص على إعادة توطيد علاقاته مع مختلف الأفرقاء، بمن فيهم رئيس الحكومة نفسه. وفي هذا السياق، قد يكون لقاء كليمنصو الشهير الذي جمع جنبلاط مع الحريري ورئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ قبيل أزمة استقالة الحريري وما تبعها، نقطة البداية في هذا المسار "الجنبلاطيّ" الجديد، وهو الذي رفع عنوان "الاستقرار أولاً". كما كان لافتًا أداء جنبلاط خلال مرحلة "محنة الحريري"، بما يعزّز أيضًا هذه الفرضيّة، فـ"البيك" الذي عرف كيف يتلقف "الفرصة" من دون أن يقطعها بشكلٍ نهائيّ مع المملكة العربية السعودية، وصولاً إلى حرصه على تسريب المعلومات عن إجهاضه لفكرة وراثة الحريري من جانب شقيقه بهاء، خلال لقائه الشهير مع مستشار الأخير صافي كالو، والذي قيل إنّه أتى بمبادرة "ذاتيّة" من الأخير.

"رادارات البيك"

لطالما قيل إنّ رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط من "أذكى" الشخصيّات السياسيّة في البلاد، فالرجل الذي عُرِف بـ"انقلاباته" السياسية المتكرّرة والدورية، عُرِف أيضًا بـ"راداراته" التي كانت دائمًا قادرة على التقاط كلّ الاتجاهات السياسية ليس على مستوى لبنان فحسب بل على مستوى الإقليم أيضًا، فيبني الرجل خياراته على أساسها.

اليوم، سواء كان لـ"رادارات" الرجل أيّ دورٍ في تحديد خياراته الانتخابيّة أم لا، فإنّ الواضح أنّ الرجل "يراهن" على الانتخابات المقبلة لاستعادة دورٍ فقده بحكم الأمر الواقع خلال العام المنصرم، ولعلّ كلّ ما يفعله اليوم يصبّ في هذا الاتجاه، ولا شيء سواه...