دخلت البلاد في أزمة سياسية مفتوحة، لا يمكن حصرها بطبيعة العلاقة فقط بين بعبدا و​عين التينة​ التي كانت شهدت انسجاماً نوعياً منتجاً إبّان أزمة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، سرعان ما ذهب أدراج الرياح مع توقيع مرسوم الأقدميات لـ"دورة عون" العسكرية من دون عِلم وزارة الماليّة التي يرى رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ وجوب توقيع وزيرها ​علي حسن خليل​ على المرسوم. المسألة في عين التينة "كان يجب التشاور والتفاهم حولها"، بالإستناد على الأقل الى عرض الموضوع سابقاً على ​المجلس النيابي​، ما يؤكد أهمية التوافق حوله، قبل "تهريبه".

هنا بدت الأزمة عالقة بين موقفي بعبدا وعين التينة، وبينهما أصيب الحريري بحرج شلّ حركته بشأن الترقيات، فهو لم يستطع المضي نهائياً بالمرسوم فجمّد نشره في الجريدة الرسمية، لكن تريّثه لا يحل الأزمة، ولا يرضي الفريقين، ولا بدّ من اتخاذه القرار بين خيارين: إما اعتبار المرسوم غير قانوني ونسفه رغم توقيعه شخصياً عليه، لغياب توقيع وزير مختص هو وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​ أيضاً، نتيجة وجود ضباط أمن ضمن الترقيات المطروحة -هذا أحد أبواب التراجع عن المرسوم وطرح حلول أخرى-، وإمّا إعلان انتصاره لقرار عون على حساب موقف برّي. في الحالتين يتضرر "الشيخ سعد" بعلاقته مع حليفين أساسيين وقفا الى جانبه في محنته. لكن الحريري الذي نأى بنفسه حتى الآن عن الجدل حول قانونية التوقيع، مسّه بشكل جدّي كلام رئيس المجلس بإستحضار الرحمة في عين التينة على ذاك الاتفاق الذي يضعه رئيس الحكومة في خانة "المقدّس".

هل الكرة في ملعب الحريري بعد تمترس بعبدا وعين التينة خلف رأيهما؟. ضمنياً، يميل "المستقبليون" في مجالسهم الى رأي بري. على الأقل لا يجد "الحريريون" الوقت مناسباً لطرح أزمة سياسيّة جوهرية كهذه الآن، تصل الى حد نسف الأجواء السياسيّة الايجابية التي سادت في الأسابيع الماضية والتهديد بفرض تغيير طبيعة التحالفات على أبواب ​الإنتخابات النيابية​. سيكون "التيار الأزرق" أول المتضررين من ذاك التغيير، بضرب كل تصوراته لجمع الفريقين معاً في لوائح موحّدة يرعاها وجوده معهم على الأقل في دوائر زحلة، والبقاع الغربي، وجزين-صيدا، وبيروت.

لا تقتصر الأزمة عند هذا الحد، بل تطرح عناوين جوهرية لها علاقة بالنظام السياسي القائم ووجود "الطائف"، وما يمكن أن يستتبعها من نقاش ساخن يتخذ ضمنياً الطابع الطائفي، إنطلاقاً من الإيحاء بأن رئيس الجمهورية يسترجع صلاحياته بالقوّة، مقابل عدم قبول المسلمين بمس التوازنات الداخلية التي أفرزها "الطائف" وضَمِن فيها للوزراء المختصين التوقيع على تلك المراسيم.

كل ذلك يمكن تسويته سياسياً عاجلاً أم آجلاً والتفاهم على أطُر الحل، لكن الخطير هو انسحاب الأزمة الى داخل المؤسسة العسكرية المعنية، ما يتطلب تسريعاً للحلول، بعد تفاعل الكلام في صفوف الضبّاط المعنيين بالترقيات، والمتضررين منها. التموضعات فرضت نفسها داخل المجلس العسكري خلال اجتماعه الدوري، فإعتبر رئيس الأركان اللواء حاتم ملاّك أن "المرسوم يؤدي الى خلل في بنية ​الجيش​" واعترض اللواء محسن فنيش على المرسوم أيضاً، مقابل تأييده من قبل قائد الجيش العماد جوزف عون والأعضاء المسيحيين في المجلس العسكري، بما يؤشر الى انقسام طائفي غير صحّي لا يخدم المؤسسة العسكرية وتوازناتها.

أمام تراجع سُبل حل الأزمة، وعدم نجاح الوسطاء بتقريب وجهات النظر، وصمت وترقب الحريري و"​حزب الله​"، وإزدياد مساحة القلق من اتخاذ النقاش أبعاداً طائفية في مقاربة ملف يخص المؤسسة العسكرية التي تُتخذ مثالاً للجمع الوطني، وتخضع توازناتها للقياس على ميزان دقيق، أمام كل ذلك، لا مصلحة وطنية بغياب حل سريع لتلك المعضلة. فهي تنسف "أبوية العهد" لجميع ال​لبنان​يين، وتستولد مشكلة قابلة للتمدد الى حدود طرح تعديل النظام السياسي. فهل يتحمل لبنان طرحاً جوهرياً كهذا الآن في خضم صراعات إقليمية صعبة؟ أم يكون باب إثارة عدم توقيع وزير الداخلية على المرسوم مدخلاً للطعن به ونسفه من دون تراجع أو إحراج أي فريق، قبل طرحه من جديد ضمن تفاهم سياسي اعتادت عليه البلاد منذ نهاية الحرب اللبنانيّة؟.