بعد أن تناولنا في المقال الأول المعنون "قراءة في استراتيجية ترامب للأمن القومي" الحيثيات والإنجازات المزعومة لإدارة ترامب خلال عام واحد من الحكم، ووضعنا عليها مجموعة من الملاحظات لإظهار جانب من المغالطات والالتباسات التي تم سوقها في طيات وثيقة استراتيجية الأمن القومي، وبعد أن علقنا على العامود الثاني من عواميد الاستراتيجية المطروحة الذي يحمل عنوان " تعزيز الازدهار الأميركي" ونقلنا حرفية توصيف الوثيقة للواقع الاقتصادي الأميركي الذي أقل ما يقال فيه إنه متعثر، وأظهرنا كيف أن أداء إدارة ترامب لم يغير من هذا الواقع الاقتصادي لا سيما على صعيد المبادلات التجارية والعجز في الميزان التجاري الأميركي الذي يمكن وصفه بأنه عجز تراكمي تصاعدي وإن مر ببعض الانخفاضات من حين لآخر.

ننتقل لتناول شق آخر من وثيقة استراتيجية الأمن القومياستعرض من خلاله شبكة من المعلومات والمعطيات الواردة في مواضع متعددة من الوثيقة، لنخضعها تاليا للتفسير والتحليل وصولا لفهم أسباب ودوافع هذه الاستراتيجية الجديدة، والنظر بمدى إمكانية ​الولايات المتحدة​ من تحقيق أهدافها، ففي العامود الثالث من استراتيجية ترامب للأمن القومي المعنون " الحفاظ على السلام من خلال القوة" وضع في مطلعه قاعدة أراد واضعينها تكريسها لتبرير مساعيهم وخطواتهم لاحقا فقالوا: "ان التنافس من أجل القوة ثابتة تاريخية مستمرة" وحددت الوثيقة مجالات التنافس التي تتنافس القوى الفاعلة فيها وهي "المجال السياسي والمجال الاقتصادي والمجال العسكري" ، واعتبر ترامب وإدارته "إن التنافس الذي كان قائما بين القوى الكبرى في مطلع القرن أي ابان الحرب الباردة قد عاد من جديد" انسجاما مع ما حددته الوثيقة نفسها من مجالات للتنافس سأعمل على تناول كل مجال على حدة منطلقا من المجال الاقتصادي لأنه ركنا أساس من عناصر القوة، فالعسكري وصولا للمجال السياسيالذي يعبر عن مدى توسع النفوذ أو تأكله، بفعل تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية أو تراجعهما.

أولا: المجال الاقتصادي.

انطلق في معالجة هذا المجال من التوصيف الحرفي للنظام الاقتصادي الدولي الذي أوردته وثيقة الأمن القومي، حيث اعتبر ترامب وإدارته: "ان الولايات المتحدة كان لها دور ريادي في تأسيس مجموعة من المؤسسات المالية والمنتديات الاقتصادية التي وضعت قواعد عادلة ووفرت أدوات لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد الدولي وازالة النقاط التي قد تؤدي إلى مواجهة،"وهي ستواصل القيام بدور قيادي في هذه المؤسسات مثل ​صندوق النقد الدولي​ و​البنك الدولي​ و​منظمة التجارة العالمية​، ولكنها ستحسن أدائها من خلال الإصلاحات التي تشمل تشجيع المصارف الإنمائية المتعددة الأطراف على الاستثمار في مشاريع البنية التحتية عالية الجودة التي تعزز النمو الاقتصادي" . هذا النظام الاقتصادي سابق الذكر الذي وضعت أسسه في مرحلة تحول في مركز القوة دوليا لحساب الولايات المتحدة على الصعيد العسكري والاقتصادي والسياسي، وضع بحسب الرؤية الأميركية وسمي نظام بريتون وودز . لكن اليوم تعتبر إدارة ترامب بحسب تعبير وثيقة استراتيجية الأمن القومي: "ان هذا النظام لا يزال يخدم مصالحناولكن يجب إصلاحه "فبعد ​الأزمة المالية العالمية​ عام 2008، حل الشك مكان الثقة في هذا النظام .

وهنا بيت القصيد فان الازمة المالية العالمية في العام 2008 كشفت أن الولايات المتحدة كانت الضامن الرئيسي للنظام المالي الدولي، والمزود الأساسي بالدولارات المستخدمة على نطاق واسع كاحتياطيات للعملة وكوسيط للتبادل الدولي، ومساهم في العديد من حركة رؤوس الأموال دوليا الساعية لتحقيق مردود أعلى . واهتزاز هذا النظام يعني اهتزاز النظام الأميركي نفسه، والآزمة المالية والاقتصادية التي حصلت، أثبتت فشل الولايات المتحدة في معالجة الأزمة التي اصابت نظامها المالي، وافقدتها القدرة على أن تستمر منفردة بزعامة النظام المالي الدولي .

فقدان زعامة النظام المالي الدولي كانت الضربة الأولى للهيمنة الأميركية، والضربة الثانية والأشد قسوة كانت عندما أنطلق مسار تأسس نظام اقتصادي دولي رديف أو بديل عن النموذج الأميركي، فإن الإخفاقات والمشاكل الناجمة عن سياسات مؤسسات بريتون وودز وفشل وسائله المزعومة لتحقيق استقرار الاقتصاد الدولي والتي سميت بإجماع واشنظن، أفسح المجال في العام 2004 لبروز ما سمي إجماع بكين، حيث اعتبر نموذجا بديلا للتنمية ولا سيما في البلدان النامية أو البلدان الأقل نموا،وبروز هذا الطرح كان بمثابة رفض لإجماع واشنطن الذي قدمته الولايات المتحدة كمسار تعتمده الدول لإدارة نفسها بغية الوصول للتنمية . وأبرز أسباب هذا التحول الذي سمح بإنطلاق مسار تشكل نظام اقتصادي دولي بديل بحسب ​هنري كيسنجر​ هو التغيير الذي أصاب ميزان القوى الاقتصادية مع بروز القوى الاقتصادية الصاعدة . وأبرز القوى الاقتصادية الصاعدة اجتمعت تحت اطار ما سمي مجموعة دول الـ BRICS التي تجمع ​البرازيل​ و​روسيا​ و​الهند​ و​الصين​ و​جنوب افريقيا​.

وهذه الدول مجتمعة لـBRICS لمست بالتجربة الحديثة المعاصرة في العام 2016 زيف دعوات ما اسمته الإدارة الأميركية سابقا إصلاحات في النظام الاقتصادي والمالي الدولي، والتي قالت حينها أنها ستؤدي للتكييف مع التغيير الذي أصاب ميزان القوى الاقتصادية، مما دفعها وبدور طليعي للصين لتأسيس مجموعة من المؤسسات البديلة عن مؤسسات بريتن وودز،فأعلنت مجموعة الـ BRICS أنه تم توقيع اتفاق تأسيس بنك جديد للتنمية (NDB)، بهدف توفير الموارد المطلوبة لمشاريع البنية التحتية والتنمية المستدامة في بلدان ​البريكس​ وغيرها من الاقتصادات الناشئة والنامية، والمركز الرئيسي للبنك سيكون في مدينة شنغهاي الصينية، وهذه الخطوة عبرت عن انتقاد مباشر للبنك الدولي وعجزه عن القيام بدوره، وقالت أن البنك سيفتتح مشاريعه التنموية في بداية 2016 كما سيتعاون مع البنك الآسيوي للبنى التحتية(AIIB) .

وفي سياق متصل أعلنت دول البريكس عن توقيع اتفاق تأسيس صندوق احتياط رأسماله الأساسي 100 مليار دولارا، وهو بديل عن صندوق النقد الدولي من حيثية توفير الاستقرار للنظام المالي، وسيؤدي لتعزيز التعاون بين دول البريكس وسيوفير شبكة أمان مالية ، وستكون الصين الممول الأكبر لهذا الصندوق حيث ستقدم منفردة 41 % من قيمة تمويل الصندوق في حين روسيا والهند والبرازيل سيساهم كل منهم بـ 18 % أما ​جنوب أفريقيا​ فستساهم بنسبة 5 % فقط .

وعلى صعيد منظمة التجارة العالمية اعادوا تأكيد انفتاحهم وتعاونهم مع نظام تجاري متعدد الأطراف غير تمييزي واضح وشفاف وللوصول إلى هذا المبتغى ستستمر دول البريكس بالعمل من أجل تحقيق نتائج جولة الدوحة لمنظمة التجارة العالمية ، وبالتوازي مع التعاون الحذر مع منظمة التجارة الدولية اقامة مجموعة الـ BRICS شبكة من التحالفات الإقليمية، نظرا إلى بروز العجز وضعف الفعالية في المنظمات والمؤسسات الدولية وانتشار الأطر الإقليمية، وأبدت اهتماما خاصا باتحاد دول أمريكا الجنوبية (UNASUR) .

في الختام ان مجمل ما تقدم من تطورات على صعيد توازن القوى الاقتصادية، وخروج النظام الاقتصادي الدولي من تحت قبضة وهيمنة الولايات المتحدة، بفعل الظروف الموضوعية التي أدت إلى إعادة رسم خارطة القوى الاقتصادية مع ترجيح لكفة الدول الصاعدة والدول في طور النمو، أدى إلى تعالي الصراخات الاميركية المعبرة عن انزعاجها من عدم قدرة النظام التي وضعته هي على حمايتها من هذه التطورات من جهة، ومن جهة أخرى فهي صرخات رافضة للإعتراف بكسر الهيمنة وتراجع النفوذ.

وهذه الصرخات لا اثر لها في الواقع الاقتصادي الدولي، فوحدها القطاعات الإنتاجية والخدماتية الفاعلة والقادرة على المنافسة في السوق الدولية لها الأثر في تعديل ميزان القوى الاقتصادية، ومن أبلغ ما يدلل على جسامة ارتدادات التعثر الاقتصادي الأميركي هو ما قاله ترامب عن الدين العام الأميركي في وثيقته للأمن القومي حيث قال:" إن الدين الوطني، الذي يتجاوز الآن 20 تريليون دولارا، يشكل تهديدا خطيرا لازدهار أمريكا على المدى الطويل، وبالتالي تهديدا خطيرا لأمننا القومي عن طريق تقييد الإنفاق" .

وهذا التقييد المذكور أعلاه سينعكس على مختلف أبواب الانفاق ولاسيما على صعيد تمويل السياسة الخارجية الأميركية والانفاق العسكري ، وهو ما سيترك أثره على المجال العسكري والمجال السياسي اللذان سنتناولهما لاحقا في إطار استكمال القراءة في استراتيجية ترامب للأمن القومي...

1- National Security Strategy of the United States of America, DECEMBER 2017, p35, , https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2017/12/NSS-Final-12-18-2017-0905.pdf (19-12-2017)

2- Op,cit, National Security Strategy of the United States of America, DECEMBER 2017,pp 27-51

3- Marrewijk, Charles Van, Ottens, Daniel, Schueller, Stephan , International Economics, Oxford University Press, Oxford, 2012, p509.

4- Op,cit, National Security Strategy of the United States of America, DECEMBER 2017,p27

5- Carbaugh,Robert, International Economics, Cengage Learning, United States, 2012, p464.

6- Guo ,Sujian, Guo ,Baogang, Thirty Years of China-U.S. Relations: Analytical Approaches and Contemporary Issues, Lexington Booksacquired by Rowman & Littlefield , Lanham Maryland, 2010,pp127-128.

7- Ramo, Joshua Cooper,The Beijing Consensus, The Foreign Policy Centre, London, 2004, p9.

8- Kissinger, Henry , World Order, Penguin Press, New York,2014,pp365-366.

9- BRICS Ministry Of External Relations, VII BRICS Summit – Ufa Declaration, Ufa Russian Federation, 9 July 2015, http://brics.itamaraty.gov.br/category-english/21-documents/253-vii-brics-summit-ufa-declaration (18-02-2016)

10- BRICS Ministry Of External Relations, Sixth Summit: Fortaleza Declaration and Action Plan, Fortaleza Brazil,15 July 2014, http://brics.itamaraty.gov.br/category-english/21-documents/223-sixth-summit-declaration-and-action-plan (18-02-2016)

11- Yongnian, Zheng, Gore, Lance L. P, China Entering the Xi Jinping Era, Routledge, New York, 2014, p326.

12- Op,cit,BRICS Ministry Of External Relations, Sixth Summit: Fortaleza Declaration and Action Plan,Fortaleza Brazil,15 July 2014..

13- Ibid..

14- Op,cit,National Security Strategy of the United States of America, DECEMBER 2017,p29. 15- Dobbins, James, Solomon, Richard H., Chase, Michael S., and others, Choices for America in a Turbulent World: Strategic Rethink, Rand Corporation, California, 2015, pp18-20.