نجح رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ حيث فشل الآخرون، حين وضع رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ ورئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ في الخانة نفسها بعد الازمة التي اعترضته في ​السعودية​، فكان الانسجام والاتفاق بين رئيسي الجمهورية ومجلس النواب اكثر مما توقعه اكبر المتفائلين، وتحركا كشخص واحد وهو ما ظهر جلياً دون الحاجة الى التدليل عليه.

وفجأة، عادت الازمة بين الرجلين الى الظهور، بسبب ما سمّي "دورة ضباط عون"، والتي لا يرغب عون في اطلاق هذه التسمية عليها بل صحّحها اكثر من مرة بالقول انها "​دورة ضباط 1994​"، والتي أُشبعت كلاماً وتمحيصاً لا لزوم بنا للعودة اليه. الازمة يبدو وكأنها وصلت الى طريق مسدود، واستُدعي لهذه الغاية المسؤول عن المفاوضات في ​لبنان​، اي مدير عام الامن العام اللواء المتقاعد ​عباس ابراهيم​، للتدخل واعادة المياه الى مجاريها، والمعروف عنه انه يعمل بصمت ودون يأس الى ان تنجح مساعيه فتصبح معروفة للجميع.

ولكن، بعيداً عن اللواء ابراهيم، هناك من بدا اكثر عجلة لحل الموضوع، ودخل على الخط بطريقة اعلامية اولاً، وعبر موفدين الى بعبدا و​عين التينة​ ثانياً، عنينا به الحريري نفسه. فهو يُدرك ان المسألة لا يمكن ان تُترك على حالها، لانه كما هو معروف عن بري انه يتقن سياسة عض الاصابع وقادر على التحرك عبر اكثر من طريق للوصول الى غايته، بينما يدرك الحريري بالفعل لا بالقول ان عون ليس من النوع الذي يستسلم وهو ليس بوارد التراجع عن مسألة يعتبرها "شخصية" لسببين: الاول هو انه يعتبر نفسه مسؤولاً عن تأخير الضباط المعنيين لسنتين (لان التأخير حصل إبان توليه السلطة في ما سمّي بالمنطقة الشرقية والتطورات التي اسفرت عن ذلك)، وبالتالي يرغب في انصافهم. اما السبب الثاني فيعود الى ان عون يعتبر الجيش تحت رعايته ومن غير المسموح بالنسبة اليه المسّ به، او التشكيك بقراراته بالنسبة الى المؤسسة العسكرية.

هذا الوصف لم يقنع بري، والذي بدأ التحرك عبر اكثر من وسيلة ومنها تسليط الضوء على معارضة بعض الضباط المتضررين من اعطاء اقدمية سنة لزملاء لهم من دورة العام 1994، وبدأ الكلام عن تخوف من امتعاض داخل المؤسسة العسكرية يطال ضباطاً من جهة، ومن غبن قد يلحق ضباطاً من طوائف اخرى. في المقابل، يعتبر الكثير من المتابعين للمسألة ان هذا الموضوع لا يمكن ان يكون السبب المباشر للرفض، وانه غير قابل للحياة خصوصاً وان المجلس العسكري في الجيش اقرّ الاقدمية، وبالتالي لا يمكن للمؤسسة العسكرية ان تخرج بقرار من شأنه تهديد وحدتها واستقرارها، كما انه لا يمكن لعون ايضاً تقديم اي سبب للتشكيك بعلاقته بالجيش وبتفضيله ضباطاً على غيرهم، لانه بذلك يكون قد عمد الى اخراج الجيش من تحت مظلته.

من هنا، كان تدخل الحريري في المسألة، لاصلاح ذات البين بين عون وبري، لانه المتضرر الكبير من عدم انتظام العلاقة بينهما. فهو يرغب في استمرار الحكومة في عملها، والتفرغ للتحضير للانتخابات النيابية لتقوية حضوره على الساحة السياسية، ويحتاج لذلك ان يتفرّغ لهذا الموضوع بدل ان يتنقل بجولات مكوكية من اجل عودة الحرارة الى مجلس الوزراء مجدداً، والقلق من اهتزاز العلاقة بينه وبين اي من الرجلين لان من شأن ذلك ان يهدد حملته الانتخابية بشكل رئيسي، كما سيحتسب تفضيلاً لاحدهما على الآخر. ولا يحتمل الحريري هذا الشك به، لان عون سانده بشكل مطلق في الكثير من المواضيع، والعلاقة بين وزير الخارجية ​جبران باسيل​ ومدير مكتب الحريري ​نادر الحريري​ اكثر من ممتازة ولا يجب التفريط بها، خصوصاً وانها اتخذت طابعاً عائلياً بعد الزيارة التي قام بها باسيل الى صيدا والكلام الذي صدر عنه اثر لقائه النائبة ​بهية الحريري​.

اما بري، فلن يحتمل ان يسجّل عليه الحريري انقساماً آخر، كونه يعتبر انه ابتعد عنه كثيراً في المرحلة السابقة التي ادت الى تقاربه مع عون، واي ابتعاد جديد من شأنه ان يزعزع اسس العلاقة بين بري والحريري وهو امر لا يصب حتماً في خانة الاخير.

لذلك، يبدو الحريري اكثر المستعجلين لانهاء هذا الموضوع والجدل القائم بين عون وبري، ويتردد انه يحضّر مع اللواء ابراهيم لطرح من شأنه ان يرضي الطرفين المعنيين، ولكن من غير المعروف ما اذا كان هذا الطرح سيكون العلاج الشافي للمعضلة. وما علينا سوى الانتظار...