قبل أقلّ من أربعة أشهر من الموعد المقرّر للانتخابات النيابية في السادس من أيار المقبل، يبدو واضحًا أنّ القوى السياسية بدأت تعدّ العدّة للاستحقاق الذي يعتبره كثيرون "مفصليًا" و"مصيريًا"، والذي يخشاه كثيرون كذلك، خصوصًا أنّه سيكون بمثابة "الاختبار الأول" ل​قانون الانتخاب​ النسبيّ، الذي لم يسبق اعتماده في أيّ انتخاباتٍ سابقة في ​لبنان​، وإن اعتبر البعض أنّ قوى السلطة عرفت كيف تفرّغ النسبية من مضمونها عند "ابتكاره".

وفي وقتٍ لا تزال التحالفات غير نهائية ويكتنفها الغموض، في ظلّ اعتقادٍ بأنّها لن تُحسَم قبل ربع الساعة الأخير، يُحكى عن "مواجهة انتخابيّة" شبه محتّمة ستشهدها هذه الانتخابات بين القوى المؤيّدة للتسوية الرئاسية وتلك المعارضة لها، ولو بشكلٍ غير مباشر، وهو ما أوحت به الخطوط المفتوحة بين هذه القوى، ولا سيما "​الكتائب​" واللواء ​أشرف ريفي​، إضافة إلى "الوطنيين الأحرار" ومن كانوا يُعرَفون بـ"مستقلي ​14 آذار​".

وليس خافيًا على أحد أنّ هؤلاء بدأوا في الأيام القليلة الماضية بـ"جسّ نبض" مجموعات ​المجتمع المدني​ في مسعى لخوض الانتخابات بلوائح مشتركة، خصوصًا أنّ هذه المجموعات باتت جاهزة لخوض الاستحقاق، متطلعة إلى "خرقٍ" لطالما حُرِمت منه. ولكن، هل يفعلها المجتمع المدني فيتحالف مع القوى المعارضة؟ وهل من مصلحةٍ له بذلك؟!

القرار اتُخِذ

منذ إقرار قانون الانتخاب الجديد القائم، والعين على القوى والمجموعات المنضوية في إطار المجتمع المدني، باعتبار أنّ قانون الانتخاب النسبيّ سيؤمّن لهذه المجموعات فرصةً نادرة للخرق لطالما حرمها إيّاها النظام الأكثري، الذي كان يغلّب "المحادل الانتخابية" على ما عداها، ويجعل التمثيل حكرًا على القوى والأحزاب السياسية نفسها التي لطالما تشاركت السلطة ومغانمها بأخضرها ويابسها. ومع أنّ تعقيدات ​القانون الانتخابي​ّ، وعلى رأسها الصوت التفضيليّ، خفّضت من حجم التوقّعات التي يمكن أن تُبنى على القانون الجديد، وأوحت بأنّ القديم سيبقى على قدمه إلى حدّ كبير، فإنّ ذلك لم يبدّد الآمال المعقودة بأنّ التغيير الذي يبدأ بخطوة يمكن أن ينطلق من الانتخابات النيابية، إذا ما عرفت القوى المدنية التغييرية كيف تدير معركتها للولوج بشكل أو بآخر إلى الندوة البرلمانية.

من هنا، كان من الطبيعي أن تتّخذ مجموعات المجتمع المدني، ولو بشكلٍ منفصل وإفرادي في بادئ الأمر، القرار بخوض الاستحقاق الانتخابي من بابه العريض، مستفيدةً بذلك من القانون الانتخابي الجديد، الذي، رغم مساوئه، يوفّر لها مساحة للخرق لطالما كانت عصيّة عليها، وهو ما دفع العديد من المجموعات المدنية، بما فيها تلك التي كانت قد أعلنت عزوفها عن خوض الاستحقاق، إلى إعادة تحريك ماكيناتها الانتخابية لخوض المغامرة، أو ربما المجازفة. إلا أنّ القرار وحده لم يكن كافيًا بطبيعة الحال، ليس فقط تفاديًا لتكرار الضعف الذي تظهّر في التجارب السابقة، وآخرها ​الحراك المدني​، الذي تراجع بفعل الانقسامات فيما بين القوى أنفسها، وإنما أيضًا نظرًا للتفاصيل التقنية التي نصّ عليها قانون الانتخاب، والتي توجب التعاون الانتخابي بين هذه القوى منعًا لخروجها من المنافسة، إذا عجزت عن تأمين الحاصل الانتخابي بمفردها.

ومع بدء العدّ العكسي للانتخابات المقرّرة بعد أقلّ من أربعة أشهر، يمكن القول إنّ مجموعات المجتمع المدني قد بدأت استنفاراً غير معلن، شأنها شأن القوى السياسية المختلفة، استعدادًا لليوم الموعود، حيث تنشط هذه المجموعات منذ أسابيع في محاولةٍ للاتفاق على خوض الانتخابات بالحدّ الأدنى من الانقسام، بعدما أدركت أنّ اتحادها من شأنه رفع فرصها في تحقيق نتيجةٍ ما يمكن البناء عليها. وعلى الرغم من أنّ أيّ شيء رسميّ لم يرشح حتى الساعة، مع استبعاد خوض هذه المجموعات، التي ما تزال متباينة فيما بينها، المعركة بلوائح موحّدة، فإنّ التسريبات بدأت تتحدّث عن اتفاقٍ على التعاون متى كان ذلك متوافرًا، ولو بالحدّ الأدنى، على أن يشمل هذا التعاون أكبر قدرٍ ممكنٍ من ​الدوائر الانتخابية​ من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.

أكثر من وجهة نظر...

هكذا، تعطي مجموعات المجتمع المدني الأولوية اليوم للاتفاق فيما بينها أولاً على خوض الاستحقاق الانتخابي، بأكبر قدر من الانسجام والاتفاق والتفاهم، تاركةً احتمال التحالف مع قوى سياسية أخرى قيد البحث والتمحيص وربما التفاوض. ولكن، في المقابل، ليس خافيًا على أحد أنّ هناك العديد من القوى السياسية، ولا سيما في صفّ المعارضة، بدأت بوضع مجموعات المجتمع المدني في صفّها، حيث يُحكى عن تحالفٍ يضمّ مثلاً "الكتائب" واللواء أشرف ريفي ومستقلي "14 آذار"، وربما "القوات" إذا تعذّر تفاهمها مع قوى السلطة، مع المجتمع المدني يداً بيد، وجنباً إلى جنب، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

لكن، وحتى الساعة، لم تصدر مجموعات المجتمع المدني أيّ موقفٍ واضحٍ من إمكانيّة انخراطها في تحالفٍ من هذا النوع، علمًا أنّ هناك أكثر من وجهة نظر داخل هذه المجموعات من جدوى التحالف مع بعض القوى السياسية، إذ يرى البعض أنّ التحالف مع القوى المعارضة من شأنه أن يعزّز فرصها في الوصول إلى الندوة البرلمانية وبالتالي تحقيق التغيير المنشود، الذي قد لا تقوى على تحقيقه بمفردها. بمعنى آخر، يرى هؤلاء أنّ "تقاطع المصالح" يمكن أن يبرّر تحالفًا "انتخابيًا" بين القوى المدنية والقوى المعارضة، تمامًا كما تبرر بعض قوى السلطة تحالفها مع قوى لا تشاركها القناعات السياسية الاستراتيجية نفسها، خصوصًا أنّ مثل هذا "التحالف" لن يؤدّي لـ"ذوبان" هذا الفريق في ذاك، بل سيحفظ خصوصيّة كلّ فريق، ويؤمّن في الوقت نفسه الفرصة العملية للتغيير.

ولكن في مقابل وجهة النظر هذه، والتي قد تبدو واقعيّة، هناك في داخل المجتمع المدني أيضًا من يعتقد أن خوض هذه القوى الانتخابات بتحالفٍ مع قوى حزبية وبعناوين سياسية واضحة سيقضي تلقائياً على استقلاليتها ويضعها في اصطفافٍ في مواجهة آخر، بعيدًا عن شعارها القديم الجديد "كلن يعني كلن". وبعيدًا عن أنّ القوى التي تمدّ يدها اليوم للمجتمع المدني سبق لهذه المجموعات أن خاضت صراعات حقيقية معها، فإنّ هناك من يتساءل عن المصلحة الفعلية في الدخول في تفاهم، ولو من باب المصلحة، مع قوى سياسية مناهضة لقوى أخرى، بل إنّ هناك من يعتقد بأنّها تأتي لتخدم أجندة معيّنة.

"كلن يعني كلن"

سواء حصل التحالف بين قوى المجتمع المدني وقوى المعارضة، يبقى شعار "كلن يعني كلن" الذي دافع عنه الناشطون المدنيّون في يومٍ من الأيام بكل ما أوتوا من قوة "الضحية" الأكبر للتجاذبات الانتخابية الحاصلة هنا وهنالك.

فما الذي سيبقى من هذا الشعار إذا قبل عرّابوه التحالف مع بعض "كلن" بوجه البعض الآخر؟ وماذا عن رفضهم لكلّ الأجندات ولكلّ المشاريع، من أيّ اتجاهٍ أتت؟ وأبعد من ذلك، وحتى لو عزّز تحالفٌ من هذا النوع فرص المجتمع المدني للتمثّل داخل الندوة البرلمانية، فالسؤال يبقى، أيّ مجتمع مدني سيمثّل عمليًا عندها؟!.