ما أن أُعلن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الكيان الصهيوني المحتل لأرض ​فلسطين​ منذ سنة 1948، حتى اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثالثة وتفجير موجة من الغضب والاحتجاج عمت معظم الدول العربية والإسلامية والعالم.

غير أنه بعد ما يزيد على الشهر على تفجر الانتفاضة بدأ البعض يتساءل عن إمكانية استمرار الانتفاضة في ظل الظروف الصعبة التي يواجهها الشعب العربي الفلسطيني والنابعة من التهديد الأميركي الصهيوني والدول المانحة بقطع المساعدات المالية التي تقدمها للسلطة الفلسطينية ما قد يؤدي إلى انقطاع رواتب الموظفين في الضفة الغربية وقطاع غزة وتقلص الخدمات العامة، فيما يسود قلق من تراجع التحركات الشعبية العربية والإسلامية والدولية المتضامنة والمساندة عما كانت عليه من زخم في الأسابيع الثلاثة التي أعقبت قرار ترامب، الأمر الذي ينعكس سلباً بتراجع فعاليات الانتفاضة، مقروناً بعدم ارتقاء الأداء السياسي الفلسطيني إلى مستوى التحدي الذي يواجه قضية فلسطين ويهددها بخطر التصفية لمصلحة فرض الحل الصهيوني الذي ظهرت عناوينه بوضوح بقرار الكنيست الصهيوني ضم القدس والضفة الغربية وإعلان رئيس الوزراء العدو بنيامين نتانياهو الحرب على وكالة الأونروا لتشغيل اللاجئين باعتبار استمرارها في تقديم المساعدات للاجئين الفلسطينيين، الذين هجرتهم العصابات الصهيونية عام 1948، يخلد حقهم بالعودة، وبالتالي فإن نتانياهو وضع في سلم أولوياته تصفية وإنهاء وجود هذه الوكالة الدولية، ويبدو أن واشنطن قررت دعم مطلب نتانياهو عبر إعلان تخفيض المساعدات التي تقدمها للوكالة.

وهذا يعني أن كيان الاحتلال الصهيوني وبدعم أميركي قرر أن يضع موضع التنفيذ العملي إنهاء مفاوضات الحل النهائي وفرض مشروعه القاضي بتصفية الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني.

لكن هل القلق من احتمال تراجع وتوقف الانتفاضة في محله؟ وما هي آفاق الانتفاضة؟ وهل نحن أمام فرصة جديدة فلسطينياً لإعادة تصويب مسار النضال الوطني على أسس تحررية؟

أولاً: المدقق في الأسباب التي أدت إلى اندلاع الانتفاضة الثالثة والظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية، مقارنة بتلك التي كانت أيام الانتفاضتين الأولى والثانية يتبين له أن هذه الظروف والأسباب تخدم استمرار الانتفاضة وعدم توقفها، وهي قد تشهد مراحل مد وجذر في فعالياتها، تماماً كما هو حال التظاهرات والتحركات الشعبية العربية والإسلامية والدولية.

على صعيد الأسباب، فإن الانتفاضة الثالثة، إلى جانب استمرار عنف الاحتلال وسياساته التعسفية ضد الشعب العربي الفلسطيني، لم يعد هناك من أفق لحل الدولتين، في حين أن السعي إلى إيجاد راعٍ أو وسيط دولي جديد بديل عن الولايات المتحدة التي كشفت عن موقعها الحقيقي إلى جانب كيان الاحتلال الصهيوني، غير ممكن لأن حكومة العدو لن تقبل بغير واشنطن، فيما لن تقبل أي دولة أخرى أن تحل مكان الإدارة الأميركية طالما هي غير مقبولة كطرف وسيط من جميع الأطراف. وهذا يعني أن الجهود التي تبذلها السلطة الفلسطينية لإيجاد راعٍ محايد وغير منحاز لعملية التفاوض بديل عن أميركا، لن تؤدي إلى نتيجة، وهي مجرد حملة علاقات عامة ليس إلا.

أما الانتفاضة الأولى فإنها انتهت بتوقيع اتفاق أوسلو الذي خلق أملاً، زائفاً، بأنه سيؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس، في حين أن الانتفاضة الثانية تراجعت وتوقفت بعد أن انسحب الاحتلال من قطاع غزة لعدم قدرته على تحمل الاستنزاف الذي تسببه له الانتفاضة، وقد أدى ذلك إلى خروج قسم أساسي من الشعب الفلسطيني من تحت الاحتلال المباشر، ما أدى إلى تراجع زخم وقوة الانتفاضة، فيما انعكس الانقسام الفلسطيني سلباً على الانتفاضة في الضفة.

أما اليوم فإنه لم يعد هناك من إمكانية لاحتواء الانتفاضة الثالثة لأنها تأتي في لحظة لم يعد فيها أي أفق سياسي لتسوية، ولهذا فإن الانتفاضة سوف تستمر انطلاقاً من العامل السياسي المتمثل بانسداد أفق التسوية، والعامل الموضوعي المتمثل بالاحتلال وإجراءاته التعسفية وسياسات التمييز العنصري وتنكره لحقوق الشعب العربي الفلسطيني.

وعلى صعيد الظروف، فإن الانتفاضة الثالثة تأتي في لحظة تبدلت فيها المعادلات الدولية والإقليمية في غير مصلحة الاحتلال الصهيوني وحليفته الولايات المتحدة، فالهيمنة الأميركية الأحادية انتهت وحل مكانها توازنات دولية جديدة وتمرد العالم ورفضه للسياسة الأميركية.

انطلاقاً من العاملين السياسي والموضوعي فإن الانتفاضة مرشحة للاستمرار ولا يمكن وقفها أو الالتفاف عليها أو احتواؤها، ولهذا فإن الآفاق أمامها مفتوحة على التصاعد والتطور وإيجاد الآليات التي تضمن استمرارها وتحقيق أهدافها في إسقاط المخطط الأميركي الصهيوني لتصفية القضية الفلسطينية.

ويمكن القول إن لجوء الاحتلال والولايات المتحدة إلى وقف تمول السلطة يصب في صالح استمرار وتصعيد الانتفاضة، فيما سيضطر الاحتلال إلى العودة لتحمل أعباء وأكلاف احتلاله.

ثانياً: إن توافر الظروف السياسية والموضوعية لاستمرار الانتفاضة يؤمن فرصة جديدة وحقيقية لإعادة تصويب مسار النضال الوطني التحرري العربي الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني العسكري الاستيطاني العنصري، وهو ما يتطلب من القوى الفلسطينية على اختلاف توجهاتها أن تستفيد من دروس وعبر العقود الماضية من الصراع مع الاحتلال وتعمد إلى بلورة صيغة تنطلق من قاعدة أساسية اعتمدتها كل حركات التحرر العالمية التي واجهت احتلالاً واستعماراً وهي تغليب التناقض الرئيسي على التناقضات الثانوية، وأن يكون الرهان الأساسي على الانتفاضة والمقاومة باعتبارها ورقة القوة الوحيدة التي يفهمها المحتل والتي تقوي الموقف السياسي والدفاع عن الحقوق في كل المحافل الدولية، وحتى على طاولة المفاوضات، فعندما جرى التخلي عن المقاومة لصالح الاعتماد على المفاوضات بعد توقيع أوسلو وجد العدو أنه في وضع يمكنه من تحقيق أهداف وغير مجبر على التراجع. وعلينا التعلم من التجربة الفيتنامية في المقاومة وخوض المفاوضات، وكذلك من التجربة الجزائرية وغيرها من تجارب الشعوب التي لم تتخل عن أي ورقة من أوراق القوة التي تملكها وهي تخوض المفاوضات، بل كانت تستخدم هذه الأوراق لاسيما تصعيد المقاومة المسلحة خلال المفاوضات لتعزيز موقفها.