"إنّ الأيّام التي كان يتدخل فيها السفراء ويعيّنون نوابًا انتهت، وأنبّه كلّ العاملين في المجال الدبلوماسي، ومن أول الطريق، أن يلزموا حدودهم وأن يلتزموا بالأصول الدبلوماسية والاتفاقات الدولية، فتدخّل السفراء في الحياة السيادية الداخلية والوطنية أمرٌ ممنوع".

بهذه العبارات، وجّه رئيس "​التيار الوطني الحر​" وزير الخارجية ​جبران باسيل​ "رسالة حازمة" إلى "سفراء" لم يحدّد هويّتهم، جازمًا أنّ ما كان يحصل سابقًا قد ولّى، ليس فقط مع انتهاء أزمنة "الوصاية"، على تعدّدها واختلافها، بل تزامنًا مع بدء العهد الجديد، الذي يضع شعار "السيادة" عنوانًا له.

وإذا كان باسيل حرص على أن تكون ملاحظته عامّة وشاملة، فإنّ مؤشراتٍ كثيرة تدلّ على أنّ تصريحه هذا لم يأتِ عفويًا ولا بريئًا، بل إنّه قد يكون فصلاً جديدًا من "المواجهة" مع المملكة العربية السعودية، والتي لم تنتهِ فصولاً منذ أزمة استقالة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​...

كلام حقّ...

بدايةً، وبمُعزَلٍ عن الخلفيات والحيثيات، لا شكّ أنّ الوزير باسيل أراد توجيه رسالة لكلّ من يعنيه الأمر بأنّ التدخّلات الخارجيّة من بوابة الانتخابات النيابية المقبلة مرفوضة أياً كان مصدرها، من دون أن يقصد أحدًا بالتحديد، خصوصًا بالنظر إلى التجارب التاريخية اللبنانية، في أيام الوصاية وما قبلها وما بعدها، حيث كانت الإرادة الخارجية هي التي تفرض أسماء النواب، بل كانت بعض الكتل الأساسيّة تضمّ في صفوفها من اصطلح على تسميتهم بـ"النواب الودائع" الذين كانوا يُفرَضون فرضًا على رؤساء هذه الكتل من قبل الخارج.

وإذا كان الحديث بدأ، على الأقلّ في الاعلام، عن ترقّب بعض العواصم الاقليمية للمسارات الانتخابيّة، وعن ضغوطاتٍ تُمارَس لمنع انتصار فريق من هنا أو آخر من هناك في الاستحقاق، فإنّ لا مبالغة في القول أنّ باسيل أراد القول أنّ ما كان ساريًا في العهود السابقة لم يعد صالحًا في العهد الجديد، في ظلّ قيادة العماد ​ميشال عون​ للبلاد. ولا تصبّ إشارته إلى انتخابات رئاسة الجمهورية، في إيحاءٍ بأنّها حصلت وفق إرادةٍ وطنيّة بعيدًا عن تدخّلات الخارج وإملاءاته، خلافاً لما درجت عليه العادة، سوى في هذه الخانة، إذ إنّ وزير الخارجية أراد أن يقول بأنّ كلّ المعادلات والقواعد تغيّرت اليوم بالمُطلَق.

وعلى الرغم من أنّ كلام باسيل كلام حقّ بطبيعة الحال، ويفترض أن يعني جميع الأفرقاء الذين يمكن أن يفكّروا بالتدخل بالاستحقاق الانتخابي، الذي لا يتردّد الكثيرون داخل وخارج الحدود بتوصيفه بـ"المفصليّ والمصيريّ"، من السعودية إلى ​إيران​ و​سوريا​ وصولاً حتى ​أميركا​ وغيرها من الدول، فإنّ مؤشّراتٍ كثيرةً تدفع إلى الاعتقاد بأنّ المملكة العربية السعودية هي المقصودة الرقم واحد من كلام باسيل، الذي لا يعدو كونه فصلاً جديداً من فصول "المواجهة" بين الجانبين، والتي لا يبدو أنّها انتهت فصولاً بعد.

المواجهة مستمرّة...

هكذا، يمكن القول إنّ الوزير باسيل غمز من قناة السعودية في رفضه للتدخّلات الخارجيّة في الانتخابات المقبلة، ومردّ ذلك إلى ما بدأ يتسرّب عن نيّة المملكة الدخول بقوة على خط الاستحقاق الانتخابيّ، في استكمالٍ لنهجٍ كانت قد بدأته منذ ما قبل استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري والأزمة التي تسبّبت بها، خصوصًا أنّ محسوبين على السعودية لم يكفّوا في الآونة الأخيرة عن إبداء امتعاضهم من ​القانون الانتخابي​، الذي اعتبروا أنّه يؤمّن لـ"​حزب الله​" كلّ مقوّمات الانتصار وتحقيق أكثرية برلمانية أكثر من مريحة، بما يمهّد للسيطرة التامة على البلاد.

ولعلّ ما ضاعف من شعور باسيل بـ"السخونة"، إن جاز التعبير، يتمثّل بما تسرّب خلال الأيام القليلة الماضية عن ضغوطاتٍ مباشرة وغير مباشرة تمارسها السعودية على رئيس الحكومة سعد الحريري تصل لحدّ "الابتزاز" للحصول على دعمها في الانتخابات المقبلة. وتشير المعطيات المتوافرة على هذا الصعيد إلى أنّ المملكة لا تعمل فقط على إعادة لمّ شمل حلفائها السابقين في ما كان يُعرف بقوى "​14 آذار​"، بل إنّها تضع شروطًا على الحريري لدعمه انتخابيًا وماليًا، أولها ابتعاده عن "التيار الوطني الحر"، تحت طائلة دعم خصومه على الساحة السنية. ويرى البعض أنّ طريقة تعامل السلطات السعودية مع التحرّك الذي جرى أمام ​السفارة السعودية​ على خلفية قضية "​سعودي أوجيه​" وتصويره من قبل قناة "العربية"، التي أفردت له حيّزًا واسعًا من تغطيتها، على أنّه "نقمة شعبية" في وجه الحريري شكّلت في مكانٍ ما "رسالة ضغط" بالغة الدلالات.

أكثر من ذلك، ثمّة من يرى أنّ "الترجمة العملية" للضغوطات السعودية بدأت، وما اللقاء الذي جمع وزير الثقافة ​غطاس خوري​ برئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، وإعادة فتح قنوات التواصل بين الجانبين، سوى خير دليلٍ على ذلك، خصوصًا أنّ "القوات" عادت لأخذ دور "المنتصر"، بل حاولت الإيحاء بأنّ اللقاء بين الحريري وجعجع بات رهن مزاجيّة الأخير لا العكس، رغم أنّ التسريبات تشير إلى أنّ الحريري، المقتنع بأنّ تحالفه مع "التيار" سيفيده أكثر، يسعى لإقناع السعوديين بوجهة نظره، وهو يلعب على وتر إبعاد "التيار" عن "حزب الله"، وهو ما بدأ يظهر في الأفق من خلال الحديث عن "افتراق" بين الجانبين في الكثير من ​الدوائر الانتخابية​ نتيجة الخلاف بين "التيار" و"​حركة أمل​"، ووفق قاعدة أنّ "الحزب" إذا ما خُيّر بين "الحركة" و"التيار"، فسيختار الأولى لأسباب مرتبطة بالبيت الشيعيّ الداخليّ.

هل تتغيّر العقليّة؟!

قد يكون من المبالغة بمكان اتهام السعودية دون غيرها بالتدخل في الشؤون اللبنانية، والانتخابات النيابية على رأسها، لأنّ الاتهام الصحيح هو ذاك الذي يوجَّه للأفرقاء اللبنانيين أنفسهم، الذين شرّعوا سيادتهم على شتّى أنواع التدخلات، من دون أن يرفّ لهم جفن.

ولعلّ المشكلة الجوهرية، عشية الانتخابات، لا تزال تكمن في الازدواجية التي تجعل اللبناني يعتبر مساعدة دولةٍ لفريقٍ سياسيّ محدّد ماليًا أو انتخابيًا على أنّها دعمٌ يستحقّ الإشادة، ودعم دولةٍ أخرى للفريق الخصم على أنّه تدخّل فاضحٌ.

وحتى تتغيّر هذه العقليّة في المقاربة، يبدو أنّ المسار لا يزال طويلاً، مسار ما زال يأمل الكثيرون أن تشكّل الانتخابات المقبلة نقطة فاصلة على خطه، ولو لم تكن نهائيّة...