منذ أن بدأت أزمة مرسوم منح الأقدمية لضباط دورة 1994، اشتعلت "التفسيرات" المتقابلة من طرفي الأزمة، وأصبح كل فريق يسعى الى إثبات صحة رأيه، بدءاً من آراء خبراء الدستور، وصولا الى رأي هيئة التشريع والاستشارات. وتيرة الأزمة تتجه تصاعديا، والرأي الصادر عن الهيئة لا يعني انتهاء الخلاف، خصوصا بعد أن تحولت بدورها الى مصدر خلاف، فما هي هذه الهيئة وما هو دورها؟

نشأت هيئة التشريع والاستشارات عام 1949 لتشكل إحدى وحدات المديرية العامة ل​وزارة العدل​، وينظمها قانون وزارة العدل الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 16/9/1983 والمعدل بالمرسوم الاشتراعي رقم 23 تاريخ 23/3/1985. ويرأس الهيئة قاضٍ عدلي من الدرجة السابعة على الأقل أو إداري من الدرجة التي تماثلها ويعين بمرسوم يتخذ في ​مجلس الوزراء​ بناء على اقتراح وزير العدل.

من مهمات الهيئة بحسب الخبير الدستوري عادل يمّين أن تقوم بتفسير النصوص القانونية، والدستور هو نص من النصوص القانونية، وبالتالي الامر ليس محصورا بالدستور، مشيرا الى أنه من حق وزير العدل ان يطلب استشارتها في المسائل القانونية الهامة وهذا ما قام به الوزير سليم جريصاتيبموضوع المرسوم وعلى هذا الاساس رفعت رأيها (1) بتاريخ 3 كانون الثاني الحالي والذي جاء واضحا وحاسما.

من جهته يرى الخبير القانوني الدكتور ​سامي علوية​ أن "ما يرعى موضوع استشارة هيئة التشريع والاستشارات هو المرسوم الاشتراعي 151 الذي ينظم عمل وزارة العدل والذي حدد عملها وفرّق بينها وبين الهيئة الاستشارية العليا"، لافتاً في حديث لـ"النشرة"، إلى أنه "في ما يتعلق بالموضوع المثار، فإن الهيئة تنحصر مهامها بتفسير نصوص قانونية وابداء الرأي في العقود والمصالحات أو مشاريع المراسيم في الوزارات والادارات الرسمية، وهذه الهيئة لا يمكنها العمل خارج هذه النصوص التي ترعى علاقتها بالوزارات والادارات المختصة؛ وهي بكل الاحوال لا يمكنها التصدي لتفسير الدستور".

وفي سياق الأزمة المستمرة يرى يمين في حديث لـ"النشرة" أن "في دولة القانون والمؤسسات يفترض من جميع المسؤولين الالتزام برأي الهيئة كونه صدر عن الجهة صاحبة الصلاحية في التفسير ومن جهة أخرى كونه اتى معللا تعليلا متماكسا وواضحا ومتينا مستأنسا بالوضع الفرنسي في هذا الخصوص، كما تبنى قرارا صادرا عن ​مجلس شورى الدولة​ بخصوص الاشكالية ذاتها عام 1991 واعتبره جزءا لا يتجزأ من الرأي، الامر الذي يوجب على الجميع احترامه لانه يستحيل ان يكون مبنيا على مداخلات سياسية ما دام كرّس اتجاه مجلس شورى الدولة المقرر عام 1991 أي قبل نحو ثلاثة عقود من الاشكال القائم حاليا".

وإذ يعتبر يمين أن الهيئة لا تملك القوة الالزامية لرأيها الا أنه يرى في رأيها ثقلا معنويا كبيرا، مشددا على أن أي وزير أو إدارة معينة ترغب بمخالفة قرارها فيتعين عليها ان تعلل سبب الرفض وعدم الالتزام.

بدوره يشير علوية إلى أن "الخلاف اليوم يتعلق بتفسير نص دستوري وهو المادة 54 من الدستور"، يشدد على أن "تفسير الدستور هو منوط ب​مجلس النواب​ حصراً، وحتى ​المجلس الدستوري​ ليس مخولاً بتفسير النص ومجلس شورى الدولة لا يمكنه التفسير أيضاً ولا اي هيئة أخرى"، مضيفاً "من حيث مدى إلزامية رأي الهيئة، فإن المادة 14 من قانون تنظيم وزارة العدل تنص على أن اي ادارة طلبت الرأي هي غير ملزمة بمضمون الرأي ولكن مخالفة هذا الرأي يجب ان تكون معللة؛ رغم ان الحديث بالزامية الرأي في هذه الحالة يأتي خارج سياق البحث لأنها اعطت رأيها بأمر غير مختصة به"، معتبراً أن "هذا الأمر هو تعدٍ على صلاحيات مجلس النواب الذي يختص حصراً بتفسير الدستور".

ويلفت علوية النظر الى أن "مجلس شورى الدولة واضح برأيه المبدئي بأن وزير المالية عليه التوقيع على كافة المراسيم التي يترتب عليها أعباء مالية بشكل مباشر او غير مباشر(2)"، معتبراً أن "الأزمة الأخيرة تهدد المبادئ الدستورية والاعراف في ​لبنان​ ومن غير المناسب الزج بآراء الهيئات القضائية ولو كانت استشارية بمنازعات ذات طابع دستوري خارج عن اختصاصه"، مؤكدا أنمسار الازمة يتخذ طابعاً يتنافى مع مبدأ الفصل بين السلطات فمرة تعتدي السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة التشريعية؛ ومرة تُدفع السلطة القضائية الى مسارات غير مألوفة".

بتاريخ 15/7/1993 سنّ مجلس النواب القانون رقم 250/93 بعنوان إنشاء المجلس الدستوري، وحذف منه صلاحية تفسير الدستور الذي نصت عليه مهمة المجلس في ​اتفاق الطائف​، وذلك لتمكين مجلس النواب من ممارسة هذه الصلاحية منفردا، نظرا لأهميتها القصوى في الحياة السياسية، فهل تمتد الأزمة لتطال صلاحيات مجلس النواب؟

(1) أنّ الوزير المختص الذي يحقّ له توقيعَ المرسوم إلى جانب كلّ مِن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة هو وزير الدفاع، وأيّ وزير آخر يتبع أحد أو بعض الضبّاط لإدارته، ولا يشترك وزير المال في التوقيع معهم". واستنَدت الهيئة إلى خلاصة حكمٍ مماثل صَدر عن مجلس شورى الدولة العام 1991 ويتصل بالقوانين المالية، فتبنّته لجهة إبطالِه في حينه قراراً لوزير المال كان قد أصدرَه العام 1988 معتبراً أنّ قرار وزير المال "صادر عن سلطة غير صالحة". كما تضمّنَ رأي الهيئة أيضاً "بأنه لا يوجد أيّ نصّ في الدستور أو في القوانين والأنظمة المالية والإدارية يجعل من وزير المال قيّماً أو مراقباً على أعمال سائر زملائه الوزراء".

(2) أن الوزير المختص هو أساسا الوزير الذي يقع على عاتقه تحضير العمل المعني وتطبيقه وذهب مجلس شورى الدولة في لبنان في أكثر من قرار له"أن وزير المالية يجب أن يوقع كل المراسيم التي تترتب عليها بصورة مباشرة وحتى بصورة غير مباشرة نتائج مالية او أعباء على الخزينة" (قرار رقم 74 تاريخ 16/11/1995)