مباشرة بعد الهجوم التركي على ​عفرين​، كان لافتاً أن يقوم ​الأكراد​ باتهام الروس بالخيانة، وذلك على لسان متحدثين من الإدارة الذاتية التي أنشئت في عفرين، والذين اعتبروا أن الروس قد خذلوهم وساوموا على الأكراد لمصلحتهم، وبرّؤوا ساحة الأميركيين من تهمة الخيانة، علماً أن المراقبين لتطورات المشهد السوري يعرفون جيداً أن الأميركيين لم يكلفوا أنفسهم وضع خطط حُمُر على هجوم أردوغان على عفرين، بل أعلنوا تفهّمهم ل هواجس أردوغان الأمنية، وكشف مسؤولون أميركيون أنهم طلبوا من «قوات سورية الديموقراطية» الموجودة في الشمال الشرقي السوري عدم التحرك غرب الفرات للقتال ضد الأتراك وصدّ هجوم عفرين، ولم يكتفِ الأميركيون بذلك، بل وعد وزير الخارجية الأميركي تيلرسون الجانب التركي بالعمل على تحقيق منطقة آمنة في الشمال الغربي السوري تحتاجها ​تركيا​ لحماية نفسها من "​الإرهاب​"، حسب تعبير الوزير الأميركي.

كل ما سبق يعني أن الأميركيين الذين أجّجوا الغضب التركي وأعطوا الشرارة الأولى للهجوم التركي على عفرين، بإعلانهم إنشاء قوة حرس حدود كردية، عادوا وأذعنوا لتهديدات الأتراك، وتخلوا عن الأكراد في عفرين، لإرضاء الحليف التاريخي التركي، والذين يحرصون على عدم انحيازه بشكل تام للروس.

هذا التصرف الأميركي في عفرين يؤكد واحدة من الأمور التي يسوّقها حلفاء الأميركيين في المنطقة، وهي أنهم لا يتوانون عن التخلي عن حليف لتحقيق المصالح الأميركية، وقد برز هذا الشعور لدى هؤلاء الحلفاء بشكل واضح بعد موجة ما سمي "​الربيع العربي​"، فقد شعر حلفاء ​أميركا​ العرب، وعلى رأسهم المملكة العربية ​السعودية​، بالخذلان من المواقف الأميركية، واتهموا أوباما بالضعف والتردد، ما دفع الروس إلى استغلال هذه النقمة والفراغ الاستراتيجي الذي خلّفته ال​سياسة​ الأميركية، فانخرطوا بقوة في النظام الإقليمي، وسوّقوا أنفسهم باعتبارهم "الحليف الدولي الموثوق"؛ كنقيض للحليف الأميركي الذي يغدر ويخذل حلفاءه.

من هذا التصوُّر عن السياسة الأميركية في المنطقة، نفهم إعلان بوتين: إن ​روسيا​ مستعدة لتكون الحليف النزيه للعالم الإسلامي، وإن دول ​العالم الإسلامي​ باستطاعتها دائماً الاعتماد على روسيا، وهكذا، وفي مقابل ​واشنطن​ التي تتردد في تقديم الدعم العسكري المباشر أو الانخراط المباشر لجنودها في الحرب، وتفتش عن مقاتلين تقاتل بهم بالواسطة، انخرطت ​موسكو​ عسكرياً، وبقوة، لمساعدة حلفائها، ومنهم الرئيس السوري ​بشار الأسد​.

هكذا، وبما أن موسكو ليست الاتحاد السوفيتي، ولا تمارس السياسة الخارجية عبر ايديولوجية اشتراكية تريد فرضها على الدول الحليفة، ولا تقوم بتخيير الدول: إما نحن أو ​الولايات المتحدة​، سعت روسيا لتعرض نفسها باعتبارها الوسيط النزيه، وأنها قد تكون طوق النجاة للدول التي تريد التملُّص من الشروط الأميركية، وهذا ما جعل كلاً من تركيا ومصر والسعودية و​إيران​ و"​إسرائيل​" مستعدة لتطوير دائم لعلاقاتها مع موسكو.

كل ما سبق يدفع إلى الاستغراب حول الادعاء الكردي بـ"الخيانة" الروسية، مع العلم أن سلوك الأكراد في الفترة التي سبقت الهجوم التركي كانت إعلانات انتصار بالسياسة الأميركية في الشمال السوري، وترحيباً ببقاء الجنود الأميركيين، واعتباره مقدّمة لتأسيس كيان كردي انفصالي تدعمه القوات الأميركية بالقوة، ولعل ما يقوله الأكراد اليوم هو للتعمية على رفضهم – بناء على طلب أميركي –عرضاً روسياً بأن يقوم ​الجيش السوري​ بتأمين حدود منطقة عفرين لمنع هجوم الأتراك عليها، واعتقادهم بأنهم بواسطة الدعم الأميركي يشكّلون قوة أساسية لايمكن لأحد الاستهانة بها أو التخلي عنها في الشمال السوري، وإن تحوّلهم إلى قوة الأميركيين العسكرية الوحيدة في المنطقة سيجنّبهم الهجوم التركي.

في النتيجة، يبدو أن الاستراتيجية الأميركية في ​الشرق الأوسط​ في عهد ترامب لاتختلف كثيراً عن سياسة أوباما، وهو ما يدفع إلى الاعتقاد أن ​البنتاغون​ في كل الحالات هو من يحدد السياسة، بالرغم من تأثير الرئيسين، فأوباما سار في دعم مشروع حكم "​الإخوان المسلمين​" للمنطقة، فأغضب حلفاءه العرب، وترامب بعد زيارته للسعودية أعطى ضوءاً أخضر لحصار قطر و"تأديبها" بالمفهوم الخليجي، وفي الحالتين عادت السياسة الأميركية الى إقامة التوازن بين الحلفاء بعد إضعافهم، وهنا يحضرنا قول ينقل عن الرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق في وصف العلاقة مع الأميركيين، حين قال: "إن من يتعامل مع أميركا كمن يتاجر بالفحم، لن يناله في النهاية إلاّ سواد الوجه واليدين".