بالغمز والتلميح، تحدّث رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ خلال لقاء الأربعاء النيابي عن "دولتين"، لم يسمّهما، لا تريدان أن تجري الانتخابات النيابية في ​لبنان​ في السادس من أيار المقبل، موحيًا في المقابل أنّ هذه الرغبة "الخارجية" بتطيير الانتخابات اللبنانية سوف تصطدم بالارادة اللبنانية الجامعة التي لن يستطيع أحدٌ أن يوقفها.

كلام بري لم يأتِ من عدم، فهو يترافق مع تسريباتٍ يوميّة لا يُعرَف مصدرها عن "مخاوف" غير مفهومة على الاستحقاق المنتظر، يُنسَب في أحيانٍ كثيرة إلى مصادر دبلوماسية، يذهب بعضها إلى حدّ الجزم بأنّ "شيئاً ما" سيحدث قبل أيار لينسف الانتخابات عن بكرة أبيها، من دون استبعاد أن يأخذ شكل "هزّة أمنية" من الطراز الثقيل.

وإذا كان البعض ينطلق في ذلك من وجود خشيةٍ خارجيّة على سقوط لبنان في محورٍ دون آخر بفعل القانون الانتخابيّ الجديد، فإنّ "الحركة الدبلوماسية" التي نشطت خلال اليومين الماضيين تبدو مثيرة للانتباه، فهل بالفعل اختلفت أولويات الخارج، وبات من دعاة "تطيير" الانتخابات كما يحلو للبعض الإيحاء؟.

استنفار دبلوماسيّ

على الرغم من أنّ كلّ المؤشّرات توحي بأنّ الملفّ اللبنانيّ لا يحتلّ الأولوية اليوم في عواصم القرار، فإنّ الاستنفار الدبلوماسيّ عشيّة الانتخابات المقبلة يبدو لافتاً، خصوصًا على صعيد حركة السفراء، واللقاءات التي يجرونها مع المعنيّين بالشأن الانتخابيّ. فعلى سبيل المثال لا الحصر، لا يكاد يمرّ يومٌ من دون أن يستقبل وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​، وهو المعنيّ الأول بإدارة العمليّة الانتخابيّة، أحد السفراء، ويتطرق النقاش بين الجانبين إلى الاستحقاق الانتخابيّ ودهاليزه، كما أنّ بعض السفراء يعرّجون على الملفّ الانتخابيّ خلال لقاءاتهم مع مختلف الفرقاء.

وإذا كان "الارتياح إلى المسار الانتخابيّ" مصطلحًا يتكرّر على ألسنة السفراء، الذين يؤكّدون دعمهم لتكريس الديمقراطية في لبنان بعد سنواتٍ من التمديد القسريّ للمجلس النيابي، فإنّ ثمّة من يقول إنّ البعض لا يريد انتخاباتٍ في لبنان إذا كانت ستقلب التوازنات الداخلية المعمول بها منذ العام 2009، بل إنّ تسريباتٍ كثيرةً تؤكد بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ بعض هؤلاء السفراء يثيرون خلال لقاءاتهم خشية دولهم من سقوط لبنان في المعسكر السوري الإيراني، في ظلّ ما يُحكى عن انتصارٍ محتّم لـ"حزب الله" وحلفائه في الانتخابات المقبلة، رغم الأجواء التي تقول إنّ أحدًا لن يستطيع الحصول على الأكثرية المطلقة في البرلمان المقبل، وأنّ طموح الحزب لا يتخطى أصلاً الحصول على "ثلث" المقاعد في المجلس النيابي.

ولعلّ كلام رئيس المجلس النيابي نبيه بري كان الأكثر صراحةً على هذا الصعيد بحديثه عن دولتين لا تريدان إجراء الانتخابات، رجّح كثيرون أن تكونا المملكة العربية ​السعودية​ و​الولايات المتحدة الأميركية​، فالأولى تقود المشروع المناهض لـ"حزب الله"، وقد كُتِب الكثير عن استيائها من أداء رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ "المهادن" إزاء الحزب، وعن تعويلها على الانتخابات لإعادة إحياء قوى "​14 آذار​". وعلى الرغم من أنّ السفير السعودي نفى أن تكون المملكة بوارد التدخّل في الاستحقاق الانتخابيّ، الذي يبقى شأناً داخليًا، إلا أنّ هناك من يطرح علامات استفهام حول لقاءاته في العاصمة اللبنانية، وآخرها لقاء مع رئيس حزب "الوطنيين الأحرار" ​دوري شمعون​.

ويسري الأمر نفسه على الولايات المتحدة الأميركية، التي يُلاحَظ غياب دبلوماسيّيها في بيروت عن التفاعل مع الموضوع الانتخابيّ، بخلاف ما كان الواقع عليه في السنوات السابقة، حيث كانوا يطلقون المواقف المؤكدة على وجوب الالتزام بدورية الانتخاب، وتجنّب سيناريو التمديد مهما كان الثمن. لكن هناك من يقول إنّ الظروف السياسية اليوم حتّمت على الإدارة الأميركية "النأي بالنفس" لأنّها لا تستطيع تشجيع اللبنانيين على عدم إجراء الانتخابات، لكنّها في الوقت نفسه لا تريد استفتاءً شعبيًا يعطي غطاءً شرعيًا لـ"حزب الله"، ما يعيد إلى الأذهان ما حصل قبل سنوات في قطاع غزة حين أفرزت الانتخابات التشريعية الفلسطينية أكثرية لحركة "حماس" رفضت السلطات الأميركية الاقرار بها.

عاملٌ وحيدٌ

قد تكون المرّة الأولى في العقد الأخير التي تنقلب فيها الصورة بهذا الشكل، فيصبح الداخل هو اللاهث وراء الانتخابات، والخارج إما غير مكترث في أفضل الأحوال، أو داعٍ لتطيير الانتخابات، سواء مباشرةً أو مواربةً، خشية من نتائجها التي يكتنفها الغموض، في ظلّ القانون النسبيّ مع الصوت التفضيلي.

وعلى الرغم من أنّ هذه الإرادة الخارجية تعكس في المقابل رغبة داخلية ولو مستترة بتأجيل الانتخابات أو إلغائها، أو على الأقل بنسف القانون الانتخابيّ الحاليّ، ثمّة قناعة في المقابل بأنّ أحدًا من أفرقاء الداخل لا يمكنه السير بخيار تطيير الانتخابات تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، ولو كان الجميع يرغبون بذلك، علمًا أنّ "العهد الجديد" لن يقبل بمثل هذا السيناريو بتاتًا، علمًا أنّ رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ قطع عهدًا على نفسه بإجراء انتخاباتٍ نزيهة وشفّافة تحصّن العهد وتمتّنه، بمُعزَلٍ عن نتائجها، وقد سبق أن أعلن مرارًا وتكرارًا أنّه لن يعتبر أنّ عهده قد انطلق بشكلٍ رسمي إلا بعد إجراء مثل هذه الانتخابات.

من هنا، يصبح احتمال التمديد للمجلس النيابي على وقع المخاوف الداخلية والخاجية مُحالاً، إلا أنّ الخشية تبقى من العامل الأمني، الذي تبقى المفاجآت على خطه احتمالاً واردًا في أيّ لحظة. فعلى الرغم من أنّ العامل الأمني لا يزال تحت السيطرة، حتى الآن، في ظلّ حفاظ الأجهزة الأمنية على يقظتها وتأهّبها، إلا أنّ الجميع يعلم أنّه إذا صدر أمرٌ خارجيّ بتطيير الانتخابات، فإنّ كثيرين سيكونون قادرين على تفجير الوضع الأمني بالريموت كونترول متى ارتأوا ذلك، ولو في ربع الساعة الأخير، علمًا أنّ لا شيء يمنع صدور قانون بالتمديد قبل أربع وعشرين ساعة فقط من الموعد المقرّر للانتخابات، وعندها تصبح الانتخابات في خبر كان، ولو طالب بها العالم بأسره.

جرس إنذار؟!

ينتظر اللبنانيون الانتخابات المقبلة بفارغ الصبر، بعدما حُرموا من التعبير عن رأيهم منذ تسع سنواتٍ. البعض ينتظرها فقط ليمارس حقّه بالاقتراع، والبعض الآخر ينتظرها ليكرّس الزعامات التقليدية، وبينهما من ينتظر معوّلاً على تغييرٍ، لا يُتوقَّع أن يتخطى المقاعد المعدودة.

ولكن، وبخلاف حماسة اللبنانيين، هناك من يدقّ جرس الانذار لعدّة أسباب، منها البرودة الانتخابية التي لا تزال سيّدة الموقف، وعدم وضوح صورة التحالفات، وقبل هذا وذاك، غياب الحماسة الخارجية، في مفارقةٍ نادرة ولكن معبّرة...