"مليارا دولار"، ليس حجم جائرة "اللوتو"، انما حجم خسائر الدخل القومي ال​لبنان​ي سنويا جراء ازدحام السير، وفق دراسات أعدتها جامعتا هارفرد ولويزيانا الأميركيتان بالاشتراك مع ​الحكومة اللبنانية​ في العام 2017. رقم ضخم بالنسبة لبلد بالكاد يظهر على خريطة العالم، لكن من يسأل؟.

لا يكفي المواطن اللبناني كثرة المشاكل الحياتية، لتضاف اليها مشكلة من نوع آخر. ساعة، ساعتان او اكثر، يقضيها المواطن على الطريق محتجزا داخل سيارته. أزمة ليست بالجديدة بسبب سوء الطرقات، عدم التقيّد ب​قانون السير​، والافتقار لنقل عام يليق بالمواطن.

في هذا الاطار، كشفت دراسة ميدانيّة أعدّتها الأكاديمية اللبنانية الدولية للسلامة المرورية LIRSA، ان عدد المركبات في لبنان لا يقل عن مليون و500 ألف مركبة، يدخل منها 400 ألف الى العاصمة بيروت يومياً، ما يؤثّر سلباً في وضع الطرق وطبيعة الحركة المروريّة ويؤدي الى ازدحام سير. الجميع يدرك تأثيرها على الاقتصاد، البيئة، لكن هل من يدرك تأثيرها على صحة السائق الجسدية والنفسية؟.

في لبنان، ينعدم وجود إحصاءات عن مدى تأثير أزمة السير على صحة الانسان، وهذا ما أكده رئيس جمعية "​اليازا​" ​زياد عقل​ في حديث مع "​النشرة​"، مشيرا الى ان "الجمعية أيضا لا تملك إحصاءات عن هذا الموضوع ولا عن الكلفة الصحية له". لكن تأثير الازدحام على السائق نسبية بامتياز، فقد يختلف بين إنسان وآخر بحسب شخصية كلّ واحد.

ذبحة قلبية؟

تكثر التأثيرات على صحة الانسان الجسدية، فأولا يتعرض السائق لكمية كبيرة من الملوثات والغازات الضارة جراء السيارات والشاحنات ما يخلق ضيق تنفس لديه، اضافة لاحتمال الإصابة بالحساسيات الصدرية وبالسرطانات، وبخاصة لدى الشباب والأطفال.

ثانيا، البقاء لساعات في أزمة السير والعيش في جو من الضجيج يؤثر على الدماغ ويرفع الضغط، الامر الذي يسرع دقات القلب، فأي نوع من الشد العصبي يؤثر على القلب. كما ان التعرض للتوتر من شأنه ان يتسبب بانعكاسات صحية سلبيّة ابرزها الآلام في مختلف اعضاء الجسم، مشاكل في النوم، الصداع، الانتقاص من المناعة، البدانة، الربو، ارتفاع ضغط الدم، احتمال الاصابة بجلطة دماغية او ذبحة قلبية. ولا تخلو التأثيرات على عظام ومفاصل السائق، فالجلوس لساعات من دون تحرك يؤدي الى تشنّج الكتفين، الظهر والرقبة.

لم تترك أزمات السير التأثيرات الجسدية وحيدة، بل رافقتها حتى على الصحة النفسية للسائق. فرغم تعايش اللبناني معها، واعتياده "بعض الشيء" على البقاء ساعات على الطرقات للوصول الى العمل او المنزل.

الوصول لحد القتل!

في لبنان لا دراسات عن تأثير الاختناق المروري على نفسية الانسان، ولا يتم اعطاءها اهمية بتاتا، فكل ما تقوم به الدولة هو اعطاء وعود للبنانيين بحل الازمة. و"المضحك المبكي" ان السلطات السويسرية قامت بدراسة حول هذا الموضوع (رغم ان سويسرا تعد من بين أفضل دول العالم وفق موقع "يو إس نيوز" بالشراكة مع جامعة بنسلفانيا). وخلال الدراسة تبين ان ساعة من الازدحام في الصباح والمساء لديه تأثير سلبي على الصحة النفسية بقدر خسارة العمل، لكن في لبنان تختلف الامور بسبب اعتياد الشعب اللبناني على مصائب اكبر.

وفي السياق، "أزمة السير تخلق الضغط النفسي والارهاق الوظيفي"، وفق ما كشفت المعالجة النفسية هلا عماد، مشيرة الى ان البقاء في السيارة لوقت طويل يشعر السائق انه فقد السيطرة وتقيّدت حريته، لانه لم يعد يستطيع التحرك كما يشاء، ما يولّد الاحباط وهذا الامر يرفع الضغط النفسي عند الانسان.

واضافت عماد: "هذا الضغط يزداد على ضغوطات الحياة العادية المتمثلة بالاوضاع الاقتصادية وغيرها، فجزء من توتر الاعصاب يرتفع اذا كانت حالة السائق المادية غير ميسرة فيتخوف مثلا من زيادة مصروف البنزين نتيجة البقاء عالقا على الطرقات او الحسم من راتبه بسبب تأخره عن دوام عمله".

اما بالنسبة للارهاق الوظيفي، "فكم مرة يصل الموظف الى عمله مرهق ويعاني من صداع جراء أزمة السير"؟، وأشارت الى انه "ممكن للإنسان ان يستيقظ وهو ممتلئ بالطاقة الإيجابية، لكن الانتظار لساعات حتى الوصول الى عمله يحولها الى احباط، فتتراجع قدرته على الإنتاج".

وفي اطار آخر، تبرز مؤثرات أخرى لأزمة المرور لا يمكن تجاهلها، لأنها تحمل دلالات سلوكية خطيرة، هي ظهور أنماط سلوكية بين البشر تدفع باتجاه الأنانية وتغليب مصلحة الذات وصولا حتى الاعتداء على الآخر او القتل. فجرائم عدة وقعت على الطرقات اللبنانية بسبب افضلية المرور وغيرها من الاسباب "التافهة"، وممكن ارجاع بعض الحالات الى الاختناق المروري الذي تؤدي الى تغير المزاج الفجائي ما يفقد السائق القدرة على السيطرة على تصرفاته والقيام بأعمال لا ارادية كـ"فشة خلق".

لتقبل الوضع

يُمكن اعطاء عشرات الوسائل للتخفيف من حدة تأثير ازمة السير على صحة الانسان النفسية، لكن الاساس ان يعمل الشخص على ذهنه ويتقبل وضعه، كما ممكن استعمال الموسيقى لترطيب الوضع، واذا كانت الزحمة في ذروتها ممكن قراءة كتاب، الحديث على الهاتف (وهنا لا نشرع استخدام الهاتف لكن يحق للصحة النفسية ما لا يحق لغيرها في حال كان السير متوقفاً كليا). إضافة إلى ذلك، لا حل يذكر للتصدي للتأثيرات الجسدية لأن "ليس باليد حيلة" في ظل تقاعس المسؤول عن دوره، لتبقى الحلول فردية كممارسة الرياضة.

كما يبدو الحل العملي بعيد جدا، اذ كشف مصدر في ​لجنة الاشغال العامة​ "أننا سنلجأ الى مشروع "الباص السريع" الذي سيُنفذ بالاشتراك مع البنك الدولي الا ان وضع هذا المشروع على السكة يتطلب اقله 4 سنوات".

خلال سنوات عدة ولا يزال اللبناني يرزح تحت وطأة أزمة المرور، ومع كل وزارة جديدة تمطر الوعود على الشعب اللبناني بالتخفيف من الازمة، لكن المصادر اعتبرت ان "كل وزير جديد يعتبر ان التاريخ بدأ معه ويعمل بطرق مختلفة عما قبله الامر الذي يبطء حل المشكلة".

لطالما كانت قيادة السيارة والحرية في التنقل من احلام بعض الشباب لكن مع الاختناق المروري حولت القيادة الى قلادة تقيّد السائق وتجعله رهينة الطريق، وفي الاطار، كشفت مصادر وزارية ان "على المواطن تحمُّل الوضع والاتكال على الله".