توقف المراقبون والمحللون باهتمام عند الإستراتيجية الأميركية الجديدة للأمن القومي بالقراءة والتحليل، كان من اللافت وصف هذه الإستراتيجية كلا من ​روسيا​ و​الصين​ بأنهما"تتحديان القوة والنفوذ والمصالح الأميركية، في محاولة لتقويض الأمن والازدهار الأميركيين"وان البلدين"مصممان على جعل ​الاقتصاد​ات أقل حرية وأقل عدالة" كما كان من اللافت قول الوثيقة انه يتعين على ​الولايات المتحدة​"إعادة النظر في سياسات العقدين الماضيين" غير أن حديث الوثيقة عن ما أسمته "الحرب الاستباقية اكتنفها الغموض حول كيفية معالجتها لمفهوم هذه الحرب في أماكن مثل ​كوريا الشمالية​ و​إيران​. على أن أحد مسؤولي ​البيت الأبيض​ الأميركي أوضح أن الأمن الاقتصادي هو الأمن القومي وأن أميركا ستدافع عن مصالحها وقيمها الوطنية عندما تتعرض للتهديد"،

وفي هذا السياق لوحظ بان هناك عودة للتركيز على القوة العسكرية عبر تخصيص 700 مليار دولار لموازنة للدفاع بزيادة قدرت ب 16 بالمائة على حساب موازنة الخارجية التي تراجعت بنسبة 40 بالمائة وذلك لمواجهة تنامي القوة العسكرية والاقتصادية لروسيا والصين، ما يؤشر إلى أن الجنرالات هم الذين باتوا يتحكمون بسياسات الإدارة الأميركية في عهد ترامب بما يخدم توجهات البنتاغون.

غير أن هذه الإستراتيجية تواجه معضلات كبيرة يصعب التغلب عليها أو تخطيها، وهي:

المعضلة الأولى: صعوبة إذا لم نقل استحالة استعادة أميركا ما كانت عليه من معدلات نمو مرتفعة والتي كانت تجعلها تشكل نحو 60 بالمائة من الناتج العالمي بعد خروجها من الحرب العالمية أقوى دولة اقتصادية في العالم ما مكنها من التربع لعقود على عرش الاقتصاد العالمي والتحكم به، والسبب هو أن تراجع حصة أميركا من الناتج العالمي لا يعود لأسباب طارئة، وإنما لحصول تحول في تقسيم العمل الدولي أدى إلى انتقال قسم كبير من الثروات والثقل في حركة الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، وذلك بفعل اشتداد المنافسة الدولية في الأسواق وكسر هيمنة الاقتصاد الأميركي عليها، لاسيما بعد القفزات الكبيرة التي حققتها الصين في معدلات النمو وكذلك العديد من الدول الناهضة اقتصاديا مثل روسيا والهند و​البرازيل​ و​جنوب أفريقيا​ وغيرها من الدول التي احتلت مساحة من السوق العالمية مما قلص حصة أميركا والدول الغربية من الناتج العالمي.

هذا التحول لا يمكن تجاوزه أميركيا، لان سمة العصر اليوم هي العولمة التي شرعت أبواب التنافس في الأسواق وإزالة القيود والحواجز من أمام انتقال حركة السلع والأشخاص. وبالتالي أصبح من المستحيل في ظل هذه التطورات أن تتمكن أميركا من استعادة هيمنتها على الأسواق والتحكم بحركة الاقتصاد العالمي.

المعضلة الثانية: عدم إمكانية شن الحرب لفرض الهيمنة الأميركية الاقتصادية بالقوة، فالحرب مع دول مثل روسيا والصين، اللتين تشكلان التحدي الأكبر للقوة الأميركية، مستحيلة لأنهما تحوزان على قدرات عسكرية ونووية متطورة، وهذا يعني أن الحرب ستكون مدمرة للجميع ولن يكون فيها رابح.

المعضلة الثالثة: التداخل في العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، ففي مقابل الشركات الأميركية التي تستثمر في الصين وتصدير أميركا سلعها لمليار واربعماية مليون نسمة، فان الصين تصدر سلعها الأرخص إلى الولايات المتحدة وتقرض أميركا عبر الاكتتاب بسندات الدين بمبلغ يتجاوز الـ تريليون دولار، و​واشنطن​ بحاجة إلى استمرار الصين في الاكتتاب بهذه السندات طالما أن لديها عجز في الموازنة يصل حاليا إلى نحو 660 مليار دولار. في وقت بلغ الدين عتبة الـ20 تريليون دولار.

إن مثل هذه العلاقة محكومة بالمصالح الاقتصادية، ومحكومة أيضا بالصراع النابع من رفض أميركا القبول بعلاقات دولية تقوم على الشراكة وبالتالي عدم تخليها عن سعيها إلى فرض الهيمنة.

هذه المعضلات الثلاث تجعل الإستراتيجية الأميركية إنما هي مستمدة من تزايد عجز القوة الأميركية اقتصاديا وعسكريا في استعادة هيمنتها الأحادية على العالم من ناحية، ومن عدم استعداد أميركا تقبل حقيقة أن العالم تغير وأن موازين قوى دولية جديدة فرضت توازنا جديدا يفرض عاجلا أن آجلا تشكيل نظام دولي يقوم على تعددية الأقطاب.

ورفض واشنطن الإقرار بهذه الحقيقة ووضعها إستراتيجية تقوم على التصعيد مع روسيا والصين واعتبارهما عدوا يدفع العالم إلى مرحلة جديدة من الحرب الباردة تتميز بالسخونة في الكثير من مناطق الصراع ، لكنها حرب ستبقى بطرق غير مباشرة وسقفها محكوم بتوازنات القوى المحلية التي هي التي تقرر النتيجة التي ستنتهي اليها.

إلى جانب المعضلات المذكورة هناك معضلة جديدة برزت في قلب أميركا وهي سعي الرئيس ​دونالد ترامب​ إلى استعادة هوية أميركا التي تعود إلى الآباء المؤسسين بالاعتماد على البيض الذين كانوا طبقة الأغنياء أسياد أميركا ويعتبرون السود مجرد عبيد، وهو طبعا ما تسبب باندلاع حرب أهلية طاحنة كلفت البلاد أكثر من 600 ألف قتيل، وعلى الرغم من أنه قد جرى إلغاء قوانين التمييز العنصري إلا أن الممارسات العنصرية لم تنته بعد من عقلية رجال الشرطة الذين أقدموا مؤخرا على ارتكاب أعمال عنصرية مشينة ضد مواطنين سود وأدت إلى اندلاع موجة غضب. هذه السياسة التي اعتمدها الرئيس دونالد ترامب في حملته الانتخابية، وبعد وصوله إلى البيت الأبيض، ولدت انقساما عموديا في أميركا وأثارت موجة انتقادات واسعة في الشارع الأميركي، وأدت إلى خسارة الحزب الجمهوري مقعده في مجلس النواب في عاصمته ولاية ألاباما حيث فاز المرشح الديمقراطي دوج جونز على منافسه الجمهوري روي مور المدعوم من ترامب مما أدى إلى حدوث زلزال سياسي هز واشنطن. وأشر إلى التحول في قاعدة الجمهوريين الذين يتخوفون من أن تؤدي فضائح ترامب التي كشف عنها مستشاره السابق للأمن القومي ومسؤول حملته الانتخابية بانون إلى خسارتهم الانتخابات النصفية للكونغرس. وإذا كانت سياسات ترامب العنصرية في الداخل الأميركي أدت إلى زيادة شعبيته في وسط البيض إلا أنه بالمقابل خسر تأييد بقية الأميركيين غير البيض وهم يشكلون نصف السكان.

إنها استرتيجية تعكس الأزمة التي تعصف بالقوة الأميركية والمعضلات التي تواجهها وتجعل سياسة أميركا في حال من الاضطراب داخليا وخارجيا.