مع تسريب الفيديو الذي يهاجم فيه وزير الخارجية ​جبران باسيل​ رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ خلال لقاءٍ انتخابيّ بترونيّ، اعتقد كثيرون أنّ "الأستاذ" حسم "المعركة" الدائمة مع رئيس "​التيار الوطني الحر​" بالضربة القاضية، وفق قاعدة "غلطة الشاطر بألف"، اعتقادٌ أتى "أسف" وزير الخارجية المسرّب عبر الصحف ليعزّزه ويكرّسه أمرًا واقعًا.

لكن، سرعان ما تغيّرت الصورة، مع ما سُمّيت بـ"الحملة" التي شنّها مناصرو رئيس المجلس النيابي على الوزير باسيل، والتي حوّلت الأخير من "خاسر" إلى "رابح"، يتقاسم مع بري "المكاسب" أو "المغانم" الناجمة عن المعركة، وما إصراره على عدم "الاعتذار" بأيّ شكلٍ من الأشكال سوى خير دليلٍ على ذلك...

دعاية انتخابيّة...

للوهلة الأولى، كان الاعتقاد السائد بأنّ تسريب فيديو باسيل سيكون بمثابة "النكسة الكبرى" لوزير الخارجية، بل ذهب البعض لحدّ القول بأنّ الرجل تعرّض لما يشبه "النهاية السياسية"، ولو أنّ ذلك كان يحمل من المبالغة ما يحمل، باعتبار أنّ التاريخ اللبنانيّ شاهدٌ على الكثير من الزلات، التي تتخطّى رأي باسيل المعروف أصلاً ببري، والتي حافظ أصحابها على "زعاماتهم"، من دون أن تتأثّر سلبًا بأيّ شكلٍ من الأشكال.

رغم ذلك، سادت قناعة ليل الأحد-الاثنين بأنّ باسيل سيخرج "خاسرًا" نتيجة تسريب الفيديو، خصوصًا أنّه أتى في توقيتٍ "حسّاس" مع سريان هدنةٍ بين "التيار الوطني الحر" و"​حركة أمل​" صحيحٌ أنّها كانت "هشّة" منذ لحظاتها الأولى، لكنّ الكثيرين كانوا يعوّلون عليها لتقريب وجهات النظر، في ظلّ التباعد المستمرّ منذ "أزمة المرسوم" الشهيرة، وأتى "الأسف" الذي عبّر عنه وزير الخارجية في صحف اليوم التالي ليُظهِر الخشية من هذه الخسارة، في السياسة أولاً، خسارة جاءت ردّة فعل مناصري "أمل" لتقلب موازينها رأسًا على عقب.

فعلى الرغم من أنّ الوزير جبران باسيل يقرّ بأنّه أخطأ التعبير في الفيديو المسرّب، وذهب بعيدًا في "الخصومة" التي يفترض ألاّ تتخطى البعد السياسي مع رئيس المجلس النيابي، فإنّ الأكيد أنّه لم يخسر شعبيًا، وبشكلٍ خاص مسيحيًا، عشيّة الانتخابات النيابية المرتقبة، بل على العكس من ذلك، فكلّ المعطيات تتحدّث عن ارتفاع شعبيّته بنتيجة الأزمة، حتى أنّ ثمّة في "التيار" من يقول إنّ باسيل عليه من باب الأخلاق أن يشكر جمهور "أمل" لأنّه قدّم له دعاية انتخابيّة لم يكن من السهل عليه تأمينها بهذه السهولة.

هكذا، يرى "العونيّون" أنّ مناصري "أمل" من خلال قطعهم للطرقات احتجاجًا على الإساءة لـ"زعيمهم"، ما شرّع بنظرهم "الإساءة" لغيره من القادة والسياسيّين، استطاعوا أن يكرّسوا، من حيث يقصدون أو لا يقصدون، ما قاله باسيل بحقّهم بشكلٍ أو بآخر، بل إنّهم جعلوا وزير الخارجية يزيل "الاعتذار" من قاموسه، بعدما كان جاهزًا لتقديمه، بحسب بعض المعلومات، لولا الخدمة التي أسداها له مناصرو "أمل"، وحتى نوابها، الذين تخطّوا كلّ الأسقف في مخاطبتهم لوزير الخارجيّة.

بري منتصر؟

انطلاقاً من ذلك، فإنّ المعنيين بالشأن الانتخابي يرجّحون أنّ شعبيّة باسيل قفزت بعد الأزمة الأخيرة، في الساحة المسيحيّة عمومًا، والبترونية خصوصًا، وليس العكس، على اعتبار أنّ ما حصل على الأرض جعل موقف الرجل قويًا بعدما كان ضعيفًا، وما تنصّل "​الكتائب​" بشكلٍ أو بآخر من المسؤولية عن التسريب، وتصريح رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ عن رفض ما حصل على الأرض، بمعزل عن تقييمه لكلام باسيل، سوى الدليل الواضح على محاولة هذه الأطراف تدارك الموقف، ولو بالتي هي أحسن.

لكن، إذا كانت ردود فعل مناصري بري قلّصت من الخسارة التي كان يمكن لباسيل أن يمنى بها، فإنّ الأكيد أنّ رئيس المجلس النيابي خرج بدوره رابحًا بقوّة من صراعه القديم وغير المستجدّ مع باسيل، فهو أولاً كسب حجمًا كبيرًا من التعاطف معه داخل بيئته الحاضنة، خصوصًا ممّن كانوا يلومونه على صراعاته الدائمة مع "التيار" وعدم مراعاته لتفاهم الأخير مع "​حزب الله​"، بل عدم ليونته وتحويله المعركة معه إلى "شخصية"، وهو ما يخدمه أيضًا عشية الانتخابات النيابية، التي يُعتبَر بري، بالتنسيق مع "حزب الله"، من المتمسّكين بإجرائها في موعدها، باعتبار أنّه من المستفيدين من القانون الانتخابيّ الجديد، بخلاف الكثير من خصومه، وباسيل من بينهم.

إلا أنّ "المكسب" الثاني، وهو الأهمّ، الذي حقّقه بري بنتيجة الأزمة، فهو أنّه فرض نفسه مرشّحًا شبه وحيد لرئاسة المجلس النيابي، بعدما حاول البعض "ابتزازه" في الأيام الماضية من هذه النقطة، ولا سيما مع تسريب "التيار" رغبته بعدم انتخابه رئيسًا للمجلس، تمامًا كما أنّ بري لم ينتخب عون رئيسًا للجمهورية. وما بيان "حزب الله" الواضح وغير الرمادي سوى جزء من "المكاسب" التي حققها، على اعتبار أنّ "الحزب" الذي لطالما حاول الوقوف على مسافة واحدة من حليفيه اضطر هذه المرّة لـ"التضامن" مع بري، وهو ما كان واضحًا أنّ أوساط "التيار" امتعضت منه، علمًا أنّ الحزب يسعى في ذلك إلى "التهدئة" في داخل البيت الشيعي، الذي يعطيه الأولوية في تحالفاته.

أما "الضرر" الذي يتحدّث عنه البعض، الذي قد يكون بري قد مني به، نتيجة الحركة "الاستعراضية" في الشارع، فلا يتوقّف بري عنده كثيرًا، خصوصًا أنّه ليس جديدًا، علمًا أنّه يعتبر أنّ هذه الحركة "العفوية"، كما تصفها أوساط "أمل"، تأتي لتخدم بري لا العكس، لتُظهِر تضامن جمهوره معه ورفضه الإساءة بحقّه، وليؤكد لكلّ من يعنيهم الأمر أنّ التعرّض لرئيس المجلس مرفوض، والأهم من ذلك عدم جواز المساواة بين الفعل وردّ الفعل، وبالتالي بين المعتدي والمعتدى عليه، وهنا بيت القصيد.

السلاح الطائفي...

أبعد من حسابات الربح والخسارة، لا شكّ أنّ أخطر ما أظهرته الأزمة المستجدّة بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري ووزير الخارجية جبران باسيل هو السلاح الطائفي والمذهبي، والذي يبدو أنّه سيشكّل أساس الحملات الانتخابية في الأشهر الثلاثة المقبلة الفاصلة عن موعد الاستحقاق النيابي في السادس من أيار.

فالوزير باسيل، ولو أخطأ في التعبير، استفاد من "البروباغندا" مذهبيًا وانتخابيًا، وكذلك رئيس المجلس النيابي، ولو كان ردّ فعل جماهيره الغاضب مضخّماً، فهو أيضًا استفاد مذهبيًا وانتخابيًا، والآتي أعظم، وهنا الخطورة التي يفترض تداركها سريعًا وقبل فوات الأوان...