من جبل قورش جبل الوداعة والعراء إلى هامة ​مار مارون​ التي عانقت سماء روما قبل أن تسكن من جديد تحت سماء ​لبنان​. في آخر زياراتي إلى حاضرة ​الفاتيكان​، قمت بزيارة تعارف إلى المونسينيور "فورمانتي" العارف والباحث في شؤون وشجون الأديان.

كم كانت دهشتي قوية حين بدأ الأسقف الفاضل بسرد وتعداد المزايا والفضائل التي مارسها وعاشها موارنة لبنان، وكم قاسوا من إضطهاداتٍ وإضطراباتٍ على إمتداد الأيام ومرور الأزمان، وهم الشاهدون على هذا الوجود المسيحي المتوقّد والفاعل في هذا الشرق .

لم ينسَ المونسينيور أن يذكّرني بمآثر ​الموارنة​ الأُول الذين سكبوا من عصارة حضارتهم وثقافتهم وإرثهم المسيحي المتأصّل بتراب لبنان، فكانوا همزة الوصل بين الشرق والغرب تفاعلوا ولم ينفعلوا، تقاسموا ولم يقسّموا، تمايزوا ولم يميّزوا.

من جادة لبنان في روما Via Del Libano التي تروي سيرة الموارنة ومدى حضورهم المتميّز في ذاكرة الشرق والعالم، إلى دير المريميين في San Pietro Invincoli وفي نقوش جدرانه حكاية الرهبان الموارنة، الذين نقلوا وتناقلوا هذا الإرث الماروني، ليعبروا به من ​شمال لبنان​ وجبله إلى عاصمة الكثلكة. فأضحى الموارنة، مع ما يكتنز تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، علامةً فارقةً في وجدان هذا الشرق بكل تلاوينه ومشاربه.

من القرن السادس عشر ومن أيام الرهبان الـTrinitari الذين أتوا مع الإرساليات ​المسيحية​، عَكَف الموارنة على الترجمة والتعريب لنقل الإرث الشرقي المسيحي العربي إلى أصقاع المعمورة. فألّفوا ​الكتب​ وبرعوا في الترجمة، وفي تشييد الصروح التعليمية من مدارس وجامعات فكانوا المَثل والمثال في الحداثة بين أطياف هذا الشرق منبع الحضارات والأديان ومُلهم الرُسل والأنبياء.

وكأنّ قدَر الموارنة أن يسكنوا الأرض والسماء، فساكنوا العليَّ في حياة الزهد والتقشّف والذوبان في ذاتية المسيح، حتى إرتقى النّساك منهم إلى مصاف القديسين الذين أمطرت السماء عليهم نِعَمها، فسكبوا في نفوسنا محبة القريب وإحترام قدسية الخلق ومعنى الوجود.

ولم يفُت المونسينيور ان يذكر كيف أنّ الموارنة انصهروا في هذا الشرق مهد الحضارات، وكيف أعلنوا ولادة الكيان اللبناني واحةً للتعايش بين مختلف الأديان في ظلال الحرية والديمقراطية. فلم يهادنوا في إعلان دولة "لبنان الكبير" أيام البطريرك ​الياس الحويك​ دولةِ المسيحيين والمسلمين، إيماناً منهم بأنّ قيمة الإنسان في ضميره وليس في كتابه ولا إنتمائه.

وقبل أن أودّع المونسينيور الإيطالي في روما، تذكرت ما قاله المونسينيور مِسلِين المستشرق النمساوي في القرن التاسع عشر عن الموارنة:" كان الموارنة يدافعون عن إيمانهم، صادّين الغزوات عن واديهم "قاديشا" وادي القديسين، وجميع مغاوره لا تزال إلى اليوم، تضمُّ عظام شهدائهم في سبيل الدين المسيحي؟... إنّه لأسهل على الاعداء، أياً كانوا، أن يزعزعوا جبال لبنان من أساساتها، ولا أن يُضعفوا الإيمان المسيحي في قلوب أصحابه الموارنة بأيّ مساس ."

وعلى وقعِ كلمات الراحل الكبير ​البابا​ يوحنا بولس الرسول بأنّ لبنان وطن الرسالة، نقول أنّ الموارنة ليسوا قلبَ لبنان بل لبنانُ في قلب الموارنة.

*من كتابي "اوراق رعيتي" 2013