بتوقيع رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ مراسيمَ ترقيةِ الضبّاط في الأسلاك العسكرية كافة، من الجيش وقوى الأمن والامن العام وأمن الدولة والجمارك، بعدما سبقه وزير المال ​علي حسن خليل​ لتوقيع ما وصفه بـ"المرسوم الواحد للأقدميات والترقيات لمصلحة لبنان ومؤسسته العسكرية ولمصلحة الجميع"، يمكن القول إنّ "أزمة المرسوم" التي نشبت بين الرئيس عون ورئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ قبل أسابيع قد طويت.

ولأنّ "المَخرَج" الذي تمّ الاتفاق على اعتماده خلال اللقاء الثلاثي الذي جمع عون وبري ورئيس الحكومة ​سعد الحريري​ في ​قصر بعبدا​ يوم الأربعاء الماضي سبق أن تمّ التداول به منذ فترة طويلة، وقيل إنّ رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ اقترحه، بمباركةٍ وبالتالي موافقةٍ ضمنيّةٍ من بري، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بعد تبنّيه من قبل جميع الفرقاء هو، لماذا كلّ هذا التأخير طالما أنّ الحلّ كان متوافرًا؟ ومن الغالب ومن المغلوب في هذه "التسوية"، إن وُجِدا؟ وماذا بعد؟

على الطريقة اللبنانية...

على الرغم من رفض وزير العدل ​سليم جريصاتي​ توصيف ما حصل على خط أزمة المرسوم بـ"التسوية"، على اعتبار أنّ "الحل دستوري وقانوني ولا تسويات في ​الدستور​"، فإنّ الأكيد والذي لا يقبل الشكّ هو أنّ ما حصل هو "تسوية" بكلّ ما للكلمة من معنى، على الأقلّ في بُعدها اللبنانيّ المعروف، وذلك وفق قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، وهو ما تُظهِره المواقف التي حاول كلّ فريق استخدامها لتصوير "الانتصار" الذي حقّقه في مكانٍ ما.

هكذا، كان من الطبيعيّ أن يحرص مناصرو رئيس الجمهورية على الإشارة إلى أنّ الرجل لم يقدّم أيّ "تنازلٍ" في الحلّ الذي تمّ التوصّل إليه، على اعتبار أنّ الرجل الذي سبق أن وقّع على مرسوم الأقدمية لم يسحب لا توقيعه ولا المرسوم الذي وقّع عليه، كما كان يطالبه البعض، وأنّ المرسوم الذي أصبح نافذاً بمجرّد توقيعه للمرّة الأولى لا يزال كذلك. إلا أنّ كلّ ما حصل، كما يرى هؤلاء، هو أنّه تمّ "عطف" مراسيم الترقيات على مرسوم الأقدمية، انطلاقاً من تفهّم الجميع لهواجس بعضهم البعض، وهذه المراسيم، أي مراسيم الترقيات، ذُيّلت بتوقيع وزير المال، وهو ما لم يكن الرئيس يرفضه أصلاً، باعتبار أنّه ينسجم مع الدستور، كون الترقيات يمكن أن ترتّب أعباء مالية مباشرة.

وفي المقابل، لا يمكن القول إلا أنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري خرج هو الآخر "غالبًا" من هذه الأزمة، بعدما استطاع أن يفرض "شروطه"، خصوصًا أنّ "المَخرَج" الذي تمّ التوصّل إليه لم يكن سوى الحلّ الذي اقترحه منذ اليوم الأول، وتولى النائب وليد جنبلاط التسويق له، وما كان يُنقَل عن بري في الصحف شاهدٌ على ذلك. وإذا كان أحد "المكاسب" التي حقّقها بري هو إعادة الاعتبار لتوقيع وزير المال على المراسيم بعدما جرت محاولة التغاضي عنه والالتفاف عليه بشكلٍ أو بآخر، فإنّ "المكسب" الأهمّ بالنسبة إليه يبقى أنه استطاع أن يكرّس نفسه لاعبًا أساسيًا ضمن المعادلة، خصوصًا أنّ القاصي والداني يدرك أنّ أكثر ما استفزّ "الأستاذ" لم يكن المرسوم بحدّ ذاته، بقدر ما كانت رائحة "الثنائية" التي اشتمّها بين عون والحريري، والتي قرأ فيها مسعى لعزله أو استثنائه، وهو ما لا يمكن أن يقبل به.

التداعيات لم تنتهِ...

هكذا، وعلى الطريقة اللبنانية، وبين ليلةٍ وضُحاها، حُلّت أزمة المرسوم، بلا غالب ولا مغلوب. لم يأت الحلّ مفاجئاً، بل ضمن سقف التوقّعات التي رُسِمت منذ اليوم الأول، وإن كان مرفوضًا من البعض هنا أو هناك. ولا شكّ أنّ عوامل عديدة ساهمت في ترجمة هذه التوقعات، بعدما كانت الترجيحات أن تُرحَّل الأزمة إلى ما بعد الانتخابات النيابية في أيار المقبل، ولعلّ التهديدات الإسرائيلية للبنان شكّلت السبب المباشر للاتفاق، إلا أنّ التوتر الذي شهده الداخل على خلفية الفيديو المسرّب لوزير الخارجية ​جبران باسيل​ يهاجم فيه رئيس المجلس النيابي نبيه بري كان هو المحفّز الأساسي للتعجيل بالحلّ خشية أخذ البلاد إلى ما لا تُحمَد عقباه.

لكن، إذا كانت أزمة "المرسوم" قد حُلّت عمليًا، فإنّ من البديهيّ القول إنّ فصولها لم تنتهِ بعد، من حيث التداعيات، التي يبدو أنّها ستتواصل في المرحلة المقبلة، خصوصًا على خط "​حركة أمل​" و"​التيار الوطني الحر​". ولا يعود ذلك فقط إلى "الكيمياء المفقودة" بين بري ورئيس "التيار" وزير الخارجية جبران باسيل فحسب، ولكن أيضًا إلى "الحسابات الانتخابية" التي بدأت تتحكّم بالشاردة والواردة، علمًا أنّ أزمة "فيديو باسيل" الشهير لم تُقفَل نهائيًا حتى الساعة، رغم "الهدنة" المعلنة بين الجانبين، خصوصًا أنّ الوزير باسيل لم يعتذر كما طالبته جماهير "أمل"، بعدما لمس ارتفاعًا في رصيده الشعبي، ولا سيما المسيحي، كما أنّ هذا الموضوع لم يغب عن التصريحات الأخيرة لرئيس المجلس، الذي رغم قوله إنّه لم يطالب باسيل بالاعتذار، كان واضحًا أيضًا بإشارته إلى أنّه يجب أن يعتذر من اللبنانيين على ما صدر عنه.

ولا تقتصر تداعيات الأزمة، ولو انتهت، على العلاقة بين بري وباسيل، بل تتشعّب لتصل إلى العلاقة بين بري والحريري، التي لا تبدو في أفضل أحوالها، رغم كلّ محاولات رئيس الحكومة لإعادة الودّ مع رئيس المجلس. وعلى الرغم من أنّ الأخير أكّد أنّ لا شيء بينه وبين الحريري، وأنّ "أزمة المرسوم" كانت الأزمة "العالقة" الوحيدة بينهما، وقد انتهت، فإنّ العارفين يعتقدون أنّ بري لن ينسى ما يعتبرها "طعنة" وجّهها له الحريري حين وقّع على المرسوم، خلافاً لرغبة بري وخلافاً للوعود التي كان قد قطعها له، في وقتٍ كان بري يحرص على تقديم كلّ الدعم للحريري، لدرجة قوله في أحد تصريحاته إنّه مع الحريري "ظالمًا أو مظلومًا". ولذلك، يبدو أنّ العلاقة بين الرجلين، وإن شهدت "مساكنة" في المرحلة المقبلة، لضرورات الحفاظ على الحكومة أولاً، لن تكون في أحسن أحوالها، خصوصًا بعدما بات واضحًا أيضًا أنّ "الافتراق الانتخابي" بين الجانبين هو الذي سيسود، بل إنّ بري اتّخذ قرار "المواجهة الانتخابية" مع الحريري في مختلف الدوائر المشتركة.

نقطة في بحر!

طويت "أزمة المرسوم"، ولم تُرحَّل لما بعد الانتخابات النيابية كما ساد الاعتقاد، لكنّها بالتأكيد لم تَطو ولن تطوي السجالات السياسية الانتخابية التي ستتعزّز في المرحلة المقبلة الفاصلة عن الانتخابات النيابية المرتقبة في السادس من أيار، والتي بدأت التحضيرات لها، سياسيًا ولوجستيًا.

وإذا كان المعروف أنّ الحماوة السياسية هي من "عدّة" أيّ انتخابات، مهما صغر أو كبر حجمها، فإنّ الأكيد أنّ الانتخابات المقبلة، وهي المفصلية خصوصًا كونها تشكّل اختبارًا لقانون انتخابي جديد تكثر التكهنات بشأن نتائجه، ستشرّع كلّ أنواع "الأسلحة الانتخابية"، لدرجة يمكن القول إنّ "أزمة المرسوم" لا تعدو كونها نقطة في بحر ما سيأتي...