أرجو من القرّاء الأعزاء عدم الاهتمام بعد اليوم بما يصدر من بيانات وتصريحات عن ممثلي حكومة ​الولايات المتحدة​ بشأن سورية أو ​فلسطين​ أو أيّ دولة عربية، وأرجو الاستعاضة عن ذلك بمراجعة ما قامت به الولايات المتحدة بحقّ الدول والشعوب منذ حرب ​فييتنام​ وحتى اليوم. فهل كانت الحروب التي شنّتها الولايات المتحدة في أيّ بقعة من الأرض تهدف إلّا إلى الاستيلاء على مصادر الثروات أو أماكن جغرافية حيوية، كما يسمونها، أو موقعاً استراتيجياً يصبّ في خانة تعزيز هيمنة الولايات المتحدة على العالم؟! أمّا ما يصدر عن وسائل إعلامهم من حرص على حقوق الإنسان وحريات الشعوب فهو فقط لذرّ الرماد في العيون، والتعمية على الأعمال الوحشية والجرائم التي يرتكبونها بحقّ البشر في مناطق مختلفة من العالم.

فهل هناك اعتراف رسمي أمريكي أوضح عن علاقتهم بداعش من أن يصف مسؤول أمريكي قتل جنود سوريين على أرض سورية يحاربون فلول داعش، بأنهم يشكّلون خطراً على الأمن القومي الأمريكي، وأن يصف محاولاتهم تحرير بئر العذبة النفطيّ من براثن ​الإرهاب​ بأنها عدوان تصدّت له قوات التحالف، فأزهقت أرواح العشرات من المقاتلين ضدّ الإرهاب وهم في

اشتباك مع إرهابيي داعش. لقد ثبت اليوم، وبالعين المجرّدة ودون أدنى شكّ، أنّ الولايات المتحدة قد أتت بقوّاتها وسيطرت على جيب في محيط التنف لأسباب ثلاث: الأول، هو حماية ما تبقى من فلول الإرهابيين، الذين نظمتهم وسلّحتهم وموّلتهم عبر عملائها الإقليميين، بحيث شكّلت مظلة سياسية وغطاءً عسكرياً لهم ولا يمكن أن يطالهم أحد. والثاني، هو أن تستخدم هؤلاء الإرهابيين مع المتواطئين معها من حكام الخنوع العربي لإحكام السيطرة على آبار نفط سورية ونهبها كما تنهب نفط ​العراق​ ونفط ​ليبيا​ منذ سنوات تحت ذرائع وعناوين واهية لا يصمد أيّ منها أمام المنطق السليم. والهدف الثالث هو قطع التواصل بين سورية والعراق، وإيجاد الجيب الإرهابي – الأمريكي في وجه هذا التواصل بين البلدين الشقيقين، والذي عملت الولايات المتحدة، ومنذ عشرات السنين على الحيلولة دونه، ذلك لأن التواصل والتنسيق بين سورية والعراق يخلق كتلة بشرية وحضارية ومصادر مادّية تشكّل قوة عربية لا يُستهان بها في وجه العدوّ الصهيوني. لقد كانت سورية والعراق من ضمن ​الدول العربية​ التقدمية التي كان يعوّل عليها في النصف الثاني من القرن الماضي لتكون الجبهة الحقيقية في وجه الكيان الصهيوني إلى أن نجحت السياسات الأمريكية باستهداف هذه الدول جميعها بذريعة أو بأخرى بمساعدة عملائها من الحكام

العرب. وحين وجدت أن قوات الجيش العربي السوري تكاد أن تحرّر الحدود مع العراق، تمركزت القوات الأمريكية، وتحت جناحها ما تبقّى من فلول الإرهابيين والمرتزقة لتحقق أكثر من هدف في وقت واحد. كما أنّ هذا التواجد الأمريكي يعتبر حجر عثرة في وجه الدعم الشرعي الروسي لسورية، وكي لا تنسى ​روسيا​ أن الولايات المتحدة لن تغادر الساحة وتسمح لروسيا أن تسجّل انتصاراً في سورية مع الجيش العربي السوري وجبهة المقاومة المؤلفة من ​إيران​ والعراق وسورية و​حزب الله​ ضدّ الإرهاب والهيمنة. وفي ذات الوقت تعمل إدارة ترامب الصهيونية على إسراع الخطى لتأهيل الكيان الصهيوني ليكون القوة الضاربة في المنطقة بعد أن كشفت بعض ​دول الخليج​ عن الدور السريّ الذي كانت تلعبه على مدى عقود ضدّ الحقوق والمصالح العربية، بما فيه توفير القواعد لشنّ الحروب على العرب، وجاهرت الآن بولائها لهذا الكيان، كما جاهر الخونة من كلّ الدول العربية تحت مسمّيات مختلفة بزيارة هذا الكيان.

لقد كان ​الاتحاد السوفياتي​ في القرن الماضي الداعم الأساس لحركات التحرّر العالمية والدول التي تقع تحت عدوان أمريكي عسكري أو سياسي، كما كان حال فييتنام أو كوبا على سبيل المثال، ولذلك فقد سعت دولة المخابرات العميقة التي تتحكم بالعملية السياسية في الولايات

المتحدة الأمريكية، وبمختلف الوسائل، وعلى مدى عقود لتفكيك هذا الاتحاد، والاستفراد بالهيمنة على الشعوب ونهب ثرواتها. واليوم، وبعد أن بدأت روسيا الاتحادية، وإلى حدّ ما الصين، باتخاذ مواقف في ​مجلس الأمن​ لدعم حقوق الشعوب، وممارسة حقّ الفيتو أكثر من سبع مرات لردع العدوان الغربي على سورية، على سبيل المثال لا الحصر، تعمل الولايات المتحدة جاهدة لاحتواء مزدوج لقوات الجيش العربي السوري وحلفائه من جهة، وللتشكيك في قدرة القوة العسكرية الروسية من جهة أخرى. ومن هنا نفهم إسقاط طائرة سوخوي سورية بسلاح أمريكي نوعي، والتصدّي لكلّ ما تقوم به روسيا من أجل التوصّل إلى حلّ سياسي للحرب على سورية. ومن ضمن السيناريوهات المتبعة من قبل الإدارة الصهيونية الأمريكية التواطؤ سراً مع أردوغان في عدوانه على الأراضي السورية، وخرقه المفضوح لاتفاقات استانة، التي هو جزء منها وضامن لها على الورق. ولكن ما لا يحسب له حساب المسؤولون الأمريكيون هو أن فلولاً من الغزاة، وعلى مدى قرون، قد لقوا حتفهم على أرض سورية المقدّسة الطاهرة، وأنّ عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء. فروسيا اليوم قوّة دولية وقطب أساسي صاعد، ولن تتمكن كلّ أساليب وجرائم الولايات المتحدة من إعادته إلى الوراء. كما أنّ تحالف المقاومة بين لبنان وسورية والعراق وإيران أصبح أمراً واقعاً

وبالغ الأهمية، ولن يستطيع الكيان الصهيوني أن يفتّ من عضد هذا التحالف مهما بلغ شأن الجنون الصهيوني الأمريكي في سبيل تحقيق ذلك. لقد انكشف المستور فعلاً وأيقنت شعوبنا حجم النفاق الذي يمارسه الغرب، وسقطت ورقة التوت وأصبحنا نراهم بالعين المجرّدة قوى استعمارية استكبارية كلّ هدفها هو نهب ثروات الشعوب وسحقها وظلمها واستعبادها، ولكنّ هذا أصبح من الماضي، ولن يكون ممكناً بعد اليوم لا في سورية ولا العراق ولا فلسطين ولا تونس أو ليبيا أو اليمن، وما إسقاط الطائرة الصهيونية المعتدية على الأراضي السورية من قبل قوات دفاع الجيش العربي السوري إلّا برهاناً أكيداً أنّ قوى المقاومة لن تسمح للعدوان أن يمرّ، وأنّ كلّ التمظهر الدولي لتصفية الصراع العربي – الإسرائيلي لصالح الكيان الصهيوني ناجم عن عدم إيمان بعض العرب بقضاياهم وعن تشرذمهم، وليس ناجماً عن قوّة صهيونية لا تُقهر. إذا كانت الأمور بخواتمها، فإنّ ختام ما أسموه ربيعاً عربياً سيكون ولادة هذا الحلف المقاوم، والذي سيخطّ تاريخاً تحرّرياً ومشرّفاً لكلّ أبنائه وأحفاده يكذّب بالوقائع والميدان أوهام التوسّعية الاستعمارية.