لا يُمكن الحديث عن طرقات ​لبنان​ من دون الحديث عن أزمة السير، بسبب جملة من الأسباب والعوامل تبدأ بغياب التخطيط وسوء الطرقات، وتمرّ بغياب البنُى التحتيّة وتصل إلى عدم تقيّد السائقين بالقوانين وقلّة أخلاق بعضهم أثناء القيادة. وبالتالي، عند أيّ تحرّك على الطريق، لا يجد السائق المعني سوى موجات الإذاعة للهروب من مُعاناته التي تبدو طويلة جدًا خلال زحمة السير. لكنّ المُشكلة أنّ برامج الكثير من هذه الإذاعات تُمثّل عقابًا سمعيًا لكل مُستمع داخل سيارته!.

ففي كل مرّة أجد نفسي مُحاطًا بعشرات السيارات من كل حدب وصوب، في ظلّ قيادة هُجومية وعدائية من قبل عدد كبير من السائقين، أحاول إيجاد فسحة إنشراح عبر مَوجات "الراديو"، لكن غالبًا ما يخيب ظنّي! وحتى لا يبقى كلامي نظريًّا، أورد مثالًا مُعبّرًا عايشته بالأمس القريب على الطريق.

فما أن شغّلت جهاز الإستماع الموسيقي وٍإخترت موجة إحدى الإذاعات التي تجاهر بتفوّقها على باقي الإذاعات في لبنان، حتى سمعت حوارًا سطحيًا إلى أقصى الدرجات، بين سيّدتين تتبادلان أطراف الحديث بكثير من الغنج المُبالغ فيه والتصنّع الواضح، مع إطلاق العنان بين الحين والآخر لقهقهات صاخبة عند الإستماع إلى رسائل صوتيّة تصلهم عبر تطبيق Whatsapp الغنيّ عن التعريف، من قبل مُستمعين يظهر من مُحتوى كلام قسم كبير منهم، مُستواهم الثقافي والإجتماعي المُتدنّي.

وبهروبي إلى موجة إذاعيّة ثانية، سمعت صوت أحد المُذيعين المشهورين الذي يُدير في آن واحد، وبفارق دقائق معدودة في بعض الأحيان، حوارات سياسيّة يُفترض أن تكون عميقة، ومزادات تجاريّة وتسويقيّة-إعلانيّة، وتواصلاً شفهيًا مع مُستمعي الإذاعة التي يعمل فيها في مواضيع سياسية وإجتماعية وإقتصادية وتحليليّة وغيرها، وكأنّ من يدفع راتبه الشهري يُريد إستغلال كل طاقات هذا الموظّف إلى أقصى الدرجات، وبشكل مُبالغ فيه وغير منطقي، بحيث يبدو وكأنّ الأمر عبارة عن One Man Show بغضّ النظر عن الموضوع المُختار!.

ومع إستمرار زحمة السير، وتقدّم سيارتي البطيء وسط أرتال السيارات، إنتقلت إلى موجة إذاعيّة ثالثة لأظنّ لوهلة أولى أنّ الحرب قد إندلعت من جديد! أغان ثوريّة وأناشيد حربيّة ودعاءات بالنصر... وكلّ ما سبق مُغلّف بتثقيف ديني مُتشدّد، بشكل يُمثّل أعلى درجات التعبئة السياسيّة والإعلاميّة لكن لفئة محدودة جدًا من المُستمعين. والمُفارقة أنّ برامج الأطفال على هذه الموجة لا تختلف في مضمونها سوى جزئيًا عن طبيعة البثّ العام.

وبتغيير موجة "الراديو" إلى محطّة إذاعيّة رابعة، سمعت صوتًا معروفًا جدًا يعود لوجه إعلاميّ سابق، لكنّ مضمون الحلقة كان عبارة عن دردشة خفيفة على الهواء، من دون أي منفعة أو معلومة قيّمة، في عصر لم يعد على المذيع فيه بذل أي مجهود تحضيري يُذكر، حيث يُمكنه الإكتفاء بالتواصل بشبكة "​الإنترنت​" وتصفّح مُطلق أي موقع إلكتروني، وقراءة بعض المعلومات المفيدة للجُمهور، إضافة إلى سرد بعض الأخبار التي تهمّ الرأي العام. وجاءت إتصالات المُستمعين لتفضح غياب الثقافة والإطلاع الضرورين لمُطلق أي إعلامي، حيث جاءت تعليقات هذه المذيعة على أحداث مُهمّة قائمة في البلاد وكأنّها تسمع بها للمرّة الأولى. فلا ​جرائم القتل​ التي كانت قد حصلت قبل أيّام قليلة عرفت خلفيّاتها أو تفاصيلها، ولا التطوّرات السياسيّة في البلاد عنت لها شيئًا، ولا حتى أزمة السير الخانقة بسبب إقفال بعض الطرق سمعت بها، إلخ!.

وعند إختيار موجة إذاعيّة أخرى، على أمل الحُصول على أي نوع من المنفعة الإخباريّة في مُطلق أي ميدان، وصل الحديث بلغّة أجنبيّة فيها الكثير من تعمّد تصنّع اللهجة الغربيّة، مُباشرة إلى أذنيّ، وبدا المضمون من كوكب آخر، وكأنّ المذيعين المعنيّين لا يعيشان في لبنان، وغير معنيّين بأي مسألة فيه لا من قريب أو بعيد، إلى درجة أنّني ظننت لوهلة أنّني أقود ​سيارة​ خارج البلاد.

وفي الخلاصة، صحيح أنّ أحدًا غير مُضطرّ لأن يستمع إلى أي موجة إذاعيّة، وإمكانيّة التبديل والإنتقال إلى موجة أخرى لا تتطلّب سوى لمسة زرّ، لكنّ الأصحّ أنّ الكثير من الإذاعات المحلّية تفتقر إلى مضمون يشدّ المُستمع، حيث جرى التخلّي عن البرامج ذات النوعيّة والجودة الجيّدة، لصالح "تعبئة الهواء" بكلام فارغ من أيّ مضمون مُفيد، وحتى بثرثرة ثقيلة في بعض الأحيان، إلى درجة صار معه إطفاء جهاز "الراديو" والإستماع إلى أبواق السيارات وحتى إلى شتائم بعض السائقين، أقل سوءًا من نشاز بعض من يُسمّون أنفسهم مُذيعين وإعلاميّين!