عمليًا، بات جميع الفرقاء مقتنعين أنّ قوى "​14 آذار​" أصبحت في خبر كان. لم يعد شيءٌ يربط مكوّنات "​ثورة الأرز​" الأساسيّة، وإن كانوا يختلفون على تشخيص الأسباب وتوزيع المسؤوليّات. أكثر من ذلك، تحوّل بعض "الرفاق القدامى"، الذين تشاركوا ساحات النضال نفسها، إلى "أشرس الحصوم"، لا يتوانون عن تبادل الاتهامات من العيار الثقيل.

وكأنّ هذا الواقع المشؤوم لم يكن ينقصه سوى افتراقٌ انتخابيّ، قد يرقى لمستوى "الطلاق"، تأتي الانتخابات النيابيّة المنتظرة في شهر أيار المقبل لا لتعزّز التباعد الانتخابيّ بين هذه المكوّنات فحسب، بل لتطلق معركة من نوعٍ آخر، معركة "أبوّة" الثورة الضائعة، "معركة" يبدو أنّ رئيس حزب "​القوات اللبنانية​" ​سمير جعجع​ يسعى لإعلان "النصر" فيها في 14 آذار المقبل...

14 آذار مختلف

لا يشبه 14 آذار 2018 غيره من تواريخ 14 آذار السابقة، منذ العام 2005 وحتى اليوم. صحيح أنّ هذا التاريخ بدأ يفقد بريقه منذ سنوات، مع بدء "تضعضع" ما كان يسمّى بفريق "14 آذار"، والذي يُقال إنّ نهايته كُتِبت مع إبرام "التسوية الشهيرة" التي أفضت إلى انتخاب العماد ​ميشال عون​، أو مرشح "​حزب الله​" كما يحلو للبعض القول، بـ"مباركةٍ" من رئيس "​تيار المستقبل​" ​سعد الحريري​ ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، إلا أنّ الأمر يبدو مختلفًا رأسًا على عقب هذا العام، مع استعداد معظم المكوّنات "الآذارية" لخوض الانتخابات النيابيّة "فرادى".

وإذا كان صحيحًا أنّ من دوافع هذا "الانفصال الآذاريّ"، إضافة إلى العوامل السياسية المؤثّرة بطبيعة الحال، القانون الانتخابيّ الجديد القائم على النسبية والصوت التفضيلي، والذي يفرض تحالفاتٍ مغايرة في الشكل والمضمون عمّا كان سائدًا في السابق، فإنّ نظرةً موضوعيّة لموقف مكوّنات "14 آذار" ككلّ يُظهِر أنّ كلاً منها يخوض الانتخابات من موقعه الخاص. فـ"تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية" اللذان كانا يُعتبَران "عصب" ثورة "14 آذار"، منذ سحب "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" يده منها، وتمايز "​الكتائب​" الشهير، لا يبدوان اليوم في أحسن أحوالهما، ما يجعل تحالفهما مستبعدًا، في وقتٍ يبدو أنّ كلّ الاتصالات مع حزب "الكتائب" اصطدمت بحائط مسدود، ما يجعل الأخير يميل نحو خوض الاستحقاق بمفرده، أو إلى جانب بعض مجموعات المجتمع المدني، إن وافقت، رغم أنّه بذلك "يخاطر"، ويعرّض كتلته الصغيرة في الحجم أصلاً، إلى التقلّص أكثر وأكثر.

أما من كانوا يسمّون "مستقلي 14 آذار"، فيغرّدون بدورهم في سربٍ خاص بهم، بعيدًا عن "المستقبل" و"القوات" و"الكتائب" ومن لفّ لفّهم، بل إنّهم يعيشون على أطلال الثورة "الضائعة"، من دون أن يقووا على "الصمود" في ضوء كلّ المتغيّرات. ولعلّ ما يزيد الطين بلّة أنّ هؤلاء أيضًا غير متفقين ضمنًا فيما بينهم، حيث يخوض جزءٌ منهم الانتخابات في محاولةٍ لتثبيت وجوده، بينما يقاطع جزءٌ آخر الاستحقاق، بذريعة أنّ القانون الانتخابيّ لا يسمح بالتمثيل العادل والدقيق.

جعجع يستعدّ

وإذا كان تحالف الحريري وجعجع بقي متماسكًا إلى حدّ بعيد حتى العام الماضي، حافظًا بعض ما تبقى من ماء وجه "14 آذار"، فإنّ الوضع لا يبدو مشابهًا هذا العام، بعد "محنة" رئيس الحكومة سعد الحريري في ​السعودية​، وما تسبّبت به أزمة استقالته من شوائب على خطّ العلاقة بين الجانبين، لم يتمّ الخروج منها بشكل نهائي حتى الساعة، بدليل غياب "الحكيم" عن احتفال الذكرى السنوية لاغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، الذي كان يحرص على عدم تفويته في أحلك الظروف سابقاً. وعلى الرغم من أنّ الاتصالات "الماراتونية" المستمرّة بين "المستقبل" و"القوات"، من خلال الوزيرين ​غطاس خوري​ و​ملحم الرياشي​، يمكن أن تفضي إلى لقاءٍ ثنائيّ طال انتظاره بين الحريري وجعجع، يمهّد الطريق أمام تحالف "على القطعة" بين الجانبين، فإنّ المعلومات المتوافرة تؤكد أنّ هذا التحالف سيقتصر على بعض الدوائر، التي لن يتخطى عددها في أفضل الأحوال عدد أصابع اليد الواحدة.

وبمُعزَلٍ عن نتائج الحوار القواتي – المستقبليّ، الذي يشبّهه البعض للدلالة على وضع الحزبين التحالفيّ السيء بالحوار الذي كان سائدًا بين "القوات" و"​التيار الوطني الحر​" في عزّ الخصومة "التاريخية" بينهما، يبدو أكثر من لافت استعداد "القوات" لإحياء ذكرى "14 آذار"، بمفردها، في احتفالٍ جماهيريّ كبير، تسعى لتحويله إلى مهرجانٍ انتخابيّ، خصوصًا بعدما أصبح شبه محسومٍ أنّ رئيس حزب "القوات" سمير جعجع سيقوم بإعلان مرشّحي الحزب خلال هذا الاحتفال، وربما برنامج "القوات" الانتخابيّ كذلك الأمر.

وإذا كان البعض يرى في هذه الخطوة محاولة من جعجع لـ"احتكار" 14 آذار، رغم أنّ معلوماتٍ يتمّ تداولها عن أنّ حزب "الكتائب" يسعى لإقامة احتفالٍ موازٍ في اليوم نفسه، وإن كان قد أطلق ماكينته الانتخابية في الرابع من شباط، فإنّ الأكيد أنّ اختيار "الحكيم" لهذا التوقيت بالتحديد لم يأتِ عن عبث، بل عن سابق تصوّر وتصميم، وكأنّه يريد أن يقول إنّه سيخوض الانتخابات تحت شعار "14 آذار"، من ناحية مبادئها السياديّة، ولو لم يبقَ غيره فيها، وهو أصلاً ما يحرص "القواتيون" على تكراره في أدبيّاتهم، على أساس أنّ "14 آذار" لم تمُت، وهي باقية في النفوس، وإن غابت عن نصوص التحالفات وكواليسها.

معركة مفتوحة...

لا تبدو معركة "أبوّة" ثورة "14 آذار" جديدة، فهي بدأت منذ فترة طويلة، حتى قبل إعلان "موتها الرحيم"، إن جاز التعبير. ويذكر الجميع في هذا السياق كيف كان حزب "الكتائب" يصرّ على أنّه "14 آذار"، وأنّ الآخرين هم من يلحقون به، عندما كان يُسأَل عن "تمايزه" في المواقف عن سائر قيادات "14 آذار"، خصوصًا بعد تولي النائب سامي الجميل زمام قيادة الحزب.

اليوم، يحاول رئيس حزب "القوات" أن يكرّس نفسه منتصرًا في معركة "الأبوّة" هذه، بما يخدمه في زمن الانتخابات، ولكنّه يُواجَه في المقابل بأسئلةٍ وانتقاداتٍ، بين من يقول إنّ جعجع كان من أطلق "رصاصة الرحمة" على "الثورة" يوم وضع يده بيد الرئيس ميشال عون، مفرّقاً "الأحباب"، ومن يسأل عمّا إذا كان مثل هذا الخطاب "الانتخابيّ" بامتياز لحزبٍ مشاركٍ أصلاً في "حكومة المساكنة" مع الخصوم سيصمد بعد الانتخابات، أم إنّ الظروف نفسها التي تجعله "شريكًا" للبعض اليوم ستتحكّم بخياراته مجدّدًا...