أكد متروبوليت ​بيروت​ للروم ​الارثوذكس​ ​المطران الياس عودة​ في اللقاء الدولي المنعقد في ​فيينا​ بعنوان "الحوار بين أتباع الأديان من أجل السلام وتعزيز التعايش السلمي والمواطنة المشتركة" أنه "أود أولا أن أشكر منظمي هذا اللقاء الدولي: الحوار بين أتباع الأديان من أجل السلام وتعزيز التعايش السلمي والمواطنة المشتركة، لأن أكثر ما نفتقده في عصرنا هو السلام، السلام الداخلي الذي ينبع من اطمئنان الإنسان إلى ربه وخالقه، والسلام بين البشر وبين الدول. في عالمنا الحاضر، الذي يتسم بالعنف على أنواعه، وتسود فيه الحروب والنزاعات والأحقاد. علينا جميعا توطيد روح السلام، وتربية أبنائنا على الحوار، وتنشئتهم على الإنفتاح على الآخر وقبوله واحترامه، فجميعنا أخوة في الإنسانية وإن اختلفنا بالدين أو اللغة أو العرق أو الوطن. إن العنف لا يحل النزاعات بين البشر. مؤسف جدا أن يلجأ الإنسان إلى العنف للدفاع عن دينه أو معتقده. مؤسف جدا أن يتم ​القضاء​ على البشر، ومحو الحضارات والتاريخ، باسم الدين. إن التطرف قتل للدين، والمتطرف الذي يتوسل العنف دفاعا عن دينه يسيء إلى دينه ويحمله ما ليس فيه، ويفضي إلى عكس الغاية المرجوة من الدين".

ولفت المطران عودة الى ان "المؤمن الحقيقي، إلى أي دين انتمى، إنسان منفتح، وديع، متواضع، محب، رحوم، يرى الله في وجه أخيه الإنسان، لذلك لا يمكن أن يسيء إليه أو يقتله. إن إيماننا المسيحي يقوم على وصية الرب يسوع: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم" (متى 5: 44). في إنجيلنا، عندما سأل إنسان مجربا الرب يسوع: "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية أجابه يسوع: تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك (لو 10: 27). وعندما سأله بطرس: "يا رب كم مرة يخطىء إلي أخي وأنا أغفر له؟ هل إلى سبع مرات؟ قال له يسوع لا أقول لك إلى سبع مرات بل إلى سبعين مرة سبع مرات" (متى 18:21-22). هذا يعني أن الإيمان يتجلى في المحبة وفي الرحمة. طبعا هناك فوارق واختلافات، لكن واجبنا أن يحترم واحدنا الآخر وأن يقبله كما هو. واجبنا أن نحترم حرية الآخر، وأن نصون كرامته مهما كان مختلفا، وأن نجري معه حوارا صادقا، صريحا وعميقا".

ولفت الى أنه "قد يكون من حسن حظنا أننا نعيش في ​الشرق الأوسط​، لأن منطقتنا منبع الأديان السماوية، وما زال الإيمان راسخا في قلوب معظم سكانها. لكننا شهدنا في العقد الأخير موجة تكفير وتطرف أججت التعصب والأحقاد وأدت إلى ما أدت إليه من قتل وتدمير وتعد على الحريات، والمخيف كان تسارع الأحداث، وعسكرة الطوائف، واللجوء إلى السلاح والقتل والتهجير والإبادة الجماعية. مشكلة عالمنا أن الإنسان فقد المحبة، محبة الله ومحبة القريب. إنسان هذا العصر لا يحب إلا نفسه، والأنانية تدفع الإنسان إلى قتل أخيه كما فعل قايين. قايين الشرير، قاتل أخيه، يسكن في كل إنسان. من هنا تأتي أهمية التربية على المحبة وعلى الديمقراطية واحترام التنوع والإختلاف، وضرورة تعزيز روح المواطنة والعمل على صهر الأفراد في بوتقة الوطنية ليضع الجميع طاقاتهم في خدمة وطنهم عوض أن تستغل كل فئة الوطن لحسابها. فالمواطنون هم أولا أفراد في المجتمع قبل أن يكونوا مجرد أعضاء في جماعات، أو أجزاء من جمهور متجانس بفعل الإنتظام الديني أو السياسي، وبفعل العداء لجمهور آخر أو الخوف منه والصراع معه على السلطة".

وأكد ان "الإنتماء إلى جماعة دينية أو حزبية ليس مبررا لقيام كتل إجتماعية متقابلة أو متصارعة. وغالبا ما تؤجج التدخلات الخارجية الصراع بين المذاهب أو الأديان لأن الطوائف تنظر إلى الخارج لتأمين حمايتها عوض الإعتماد على مؤسسات الدولة لضمان حقوقها. هذا يؤدي إلى تفكيك الأوطان وشرذمة الشعوب. لذلك، عندما ينضوي الجميع تحت لواء الوطن الذي يحكمه القانون والعدالة والمساواة رغم تنوع أبنائه، تنتفي الخلافات ويصبح التعدد مصدر غنى، وينتقل الحوار من المستوى النظري الأكاديمي وهو ترف فكري، إلى مستوى الحياة المعاشة. الوطن يؤمن الحماية لجميع أبنائه مهما كان انتماؤهم، فيطمئن الجميع ويتنافسون على خدمة وطنهم عوض التناحر في ما بينهم وتقاسم الوطن".

ورأى المطران عوده أنه "هنا تلعب حكمة القيادات الدينية والسياسية دورا بارزا في تصويب الأمور والحث على قبول العيش المشترك الذي هو لقاء بين مواطنين تجمعهم الرغبة في البقاء معا، ويفترض اختلاطا وتبادلا وتفاعلا في الإقتصاد والإجتماع والثقافة، وشراكة في القيم الإجتماعية والأخلاقية والروحية، تعززها ممارسة الديمقراطية لا لأنها تحترم قواعد التمثيل الصحيح وحسب بل لأنها تتجاوب مع النزعة الإنسانية إلى العدالة والمساواة. فنفس الإنسان الأمارة بالسوء، سوء الظلم والعنف واستغلال الآخر تجعل من الديمقراطية أمرا ضروريا، ومن وعي الإنتماء إلى الوطن حاجة ملحة. المواطنة هي وعي للمساواة بين الناس الذين يعيشون على أرض واحدة ويتشاركون طريقة حياة واحدة".

وأكد أن "المواطن لا يولد من التواريخ المنفصلة والمتعارضة، ولا من المعارك الكبيرة، القومية أو الطائفية، ولا من ​سياسة​ مستبدة. لعله يولد من التخلص من التماهي مع الجماعة الدينية أو السياسية. فالسياسة، إذا ما استتبعت المجتمع وألهته بالمنازعات، تولد عداوات وكراهيات. لذلك إن القيادات الدينية مدعوة ومؤهلة لوضع السياسة في نصابها والتشديد على هشاشتها ونسبيتها وبعدها عن القيم، فتسهم عندئذ بتحرر الناس من قيد المنازعات المفتعلة، فلا يجدون أمامهم سوى مشروع الدولة والمواطنة. ولا تتعزز فكرتا الدولة والمواطنة من طريق السياسة وحدها، بل تأتي أيضا من قوى المجتمع الحية ومنها المؤسسات والجمعيات التي نشأت في كنف الجماعات الدينية أو التي تحمل قيما دينية. طبعا يتعذر الفصل التام بين الدين والسياسة. إلا أن على القيادات الدينية، عند تعبيرها عن هموم الناس وتأكيد حرصها على الخير العام، مسؤولية الحؤول دون إضفاء الشرعية الدينية على المواقف السياسية، واستثمار المشاعر الدينية في إثارة العصبيات، وذلك حفاظا على الدين وتأكيدا على نسبية السياسة. المطلوب الإسترشاد بمبادىء الدين الأخلاقية مع عدم استغلاله في السياسة".