مهدّئات تلو المهدئات ومسكّنات تلو المسكّنات، بات حلّ بالنسبة للبعض في بلد ك​لبنان​ يقال فيه أنّ الشعب على شفير "الجنون و​الاكتئاب​" والأسباب أكثر من أن تعدّ أو أن تحصى. وإذا غصنا للتفتيش عن السبب بطل العجب فمن الحرب الباردة الناتجة عن الأزمات الاقتصادية التي تتضاعف تدريجيا، إلى الحروب العسكرية التي يتعرّض لبنان لها دون أن ننسى الأزمات الداخلية المتلاحقة. لذلك يغيب أي حافز للتفكير الإيجابي، خصوصاً في ظلّ غياب الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي، وتالياً الاجتماعي والأسريّ حتى غدا الإكتئاب مرض العصر الاكثر شيوعاً اليوم بين صفوف اللبنانيين من مختلف الأعمار.

الاكتئاب سبب رئيسي للانتحار

فمرض الاكتئاب هو أكثر من أن يعتبر وعكة صحية أو حزن شديد، فهو إضطراب نفسي يوجد خللٍ في حياة وصحة الانسان ويؤثر على التوازن العاطفي ،النفسيّ ، والجسدي للإنسان، وطريقة رؤيته للأمور من حوله. وفي مقابلة مع الدكتور النفسي انطوان سعد يعتبر أن للوصول إلى مرحلة الاكتئاب النفسي أسباب وعوامل عديدة لم يستطع الانسان مواجهتها والتصدي لها بأقل أضرار ممكنة. ويؤكد سعد أن الاكتئاب ناجم عن التفاعل المعقد بين عوامل داخلية وخارجية كالعامل الاجتماعي مثل الضغوطات العملية والاقتصادية، والعامل النفسي كالوقوع في فشل أو فراغ أو تعب. في حين يشدد سعد أن للعامل البيولوجي تأثير كبيرا على المكتئب مترجما عن طريق الجينات الوراثية.كذلك لنوعية وكمية الاطعمة اليومية، والاستهلاك المفرط للانترنت و​وسائل التواصل الاجتماعي​ ، قلت النوم، والعنف الذي يتعرض له الانسان من عنف كلامي أو جسدي تأثير لزيادة خطر الوقوع قيد الاكتئاب. ولفت الدكتور سعد إلى أن تراخي القيم الاخلاقية و الاجتماعية فضلا عن السرعة في تنفيذ الامور وتراكم الازمات المالية والسكانية والمعيشية زادت من الضغوطات ما يجعل اللبناني بشكل عام يشعر بالاكتئاب. كذلك إنكار بعض المصابين بالاكتئاب خوفاً من مواجهة عوالمهم الداخلية هي سبب من اسباب زيادة درجة الاكتئاب للشخص.

فهذه حال طوني شاب لبناني في الاربعين من عمره كان يعاني من الاكتئاب الذي ثبت من خلال عوارض علمية كالشعور بالملل والضجر، إحباط وإرهاق مزمن، أرق ليلي متكرر، خلل في النظام الغذائي كفقدان الشهية أو الأكل بإفراط، عصبية دائمة ، تشاؤم وفقدان السرور، فقدان الثقة بالنفس وضعف في الذاكرة التي كانت تؤدي لاتخاذه قرارات خاطئة ولاسيما التفكير الدائم بالموت. أمام هذا التعب الجسدي والنفسي وعدم قبوله لرؤية أي إنسان، يشرح لنا طوني كيف نجى من عملية إنتحار حيث نقله والده للمستشفى بعد شربه لكمية كبيرة من الادوية المهدئة. في المقابل تؤكد دراسة أميركية صادرة عن جمعية سوسيدولوجي أن 70% من حالات ​الانتحار​ هي ناجمة عن إكتئاب مزمن قد أصاب المنتحر. اليوم طوني وبعد سنتين من الاكتئاب أو العذاب النفسي كما يصفه، يتعالج لدى طبيب متخصص الذي يؤكد له بعد معالجة طويلة أن للعامل الوراثي تأثير كبير لحالته الاكتئابية. طوني الذي يتابع علاجا دوائيا منتظما، يشدد مشجعا كلّ فرد يعاني من إكتئاب ولو خفيف زيارة طبيب نفسيللتوصل لحلّ يريحه كما يريح المجتمع المتعايش معه.

الاكتئاب ومهدئاته لا يفرقان لبنان عن باقي البلدان

في حين الواقع المأساوي للضغوطات الحياتية في لبنان، ترجم بهجمة عشوائية عبر السنين في تناول أدوية مهدئات الاعصاب والمسكنات بعيدا عن الرقابة وحتى بدون وصفة طبية وبمخالفة واضحة للقانون.وتشير معلومات نقابة الصيادلة إلى أن لبنان شهد عام 2007 استيراد 1.081.836 مهدئاً للقلق، مقابل 868.145.00 عام 2005، كما استورد 574.647.00 من مضادات الاكتئاب عام 2007، مقابل 488.697.00 عام 2005. وبحسب ​منظمة الصحة العالمية​ أن الاكتئاب سوف يكون السبب الثاني الرئيسي للوفات في العالم عام 2020.ويبلغ احتمال الإصابة عند النساء ضعفي احتمال إصابة الرجال به، وذلك يعود كما ذكر لأسباب تتعلق بارتفاع الضغوطات الاجتماعية والبيولوجية لدى المرأة، وترتفع النسبة أيضاً عند العاطلين عن العمل، والذين يعانون مشاكل عاطفية، ولدى العازبين أيضا.

كذلك وفي دراسة لمنظمة الصحة العالمية حول البلدان الذين يعانون من نسب عالية من الاكتئاب عام 2011، تبيين أن النسبة الاعلى طالت الدول الغنية حيث شكلت ​فرنسا​ المرتبة الاولى بنسبة 21% ويليها ​الولايات المتحدة​ بنسبة 19%. حيث شملت الدراسة أيضا الدول الفقيرة التي تصدر فيها لبنان المرتبة الرابعة بنسبة 10،9 %. ويصنف هذا المرض، وفق إحصائيات المنظمة ، الاكتئاب يحتلّ المرتبة الثانية في التسبب بفقدان قدرة العمل والإنتاج عند الأفراد، والتي تساهم بالمقابل لارتفاع نسبة التعرض للامراض القلبية وفقدان المناعة.لذلك ثمة دوراً للعلاقات الأسرية والشخصية ودور المجتمع والبيئة في مواجهة هذا الداء النفسي.

لقد تطورت أساليب التعرف إلى الاكتئاب كما تطورت أساليب علاجه، إذ يشير دكتور سعد أن هناك طريقتان للعلاج النفسي والدوائي ولكل منهما أسلوب ونتيجة. فالمريض الذي يعاني من إكتئاب خفيف يتلقى علاج نفسي، للعمل مع المعالج النفسي على تغير طريقة التفكير الشخصية السلبية. أمّا المريض الذي يعاني من إكتئاب من الدرجة المتوسطة والكبيرة فهو يتلقى علاج نفسي بالايضافة لعلاج دوائي يتمّ تحديده مع طبيب نفسي متخصص. من هنا يشدّد دكتور سعد على خطورة إستخدام مهدئات الاعصاب والمنومات دون وصفة طبية للحالة، كونه يؤدي لتداعيات صحية ونفسية كوجع الرأس، الصداع، والخمول.

من جهتها، أكدت منظمة الصحة العالمية في تقرير لها عام 2017 أن الاكتئاب بات يؤثر على أكثر من 300 مليون شخص في العالم، وقد يصبح حالة صحية خطرة. حيث في كل عام يموت ما يقارب 800000 شخص من جراء الانتحار الذي يمثل كثاني سبب رئيسي للوفيات بين الفئة العمرية 15-29 عاماً. نهاية الحديث يمكن التأكيد ان الاكتئاب مرض يهدد الجميع لا يميّز بين ثريّ أو فقير وفي كل مراحل الحياة العمرية وخصوصا مرحلة الشباب بين 25ـــ45 سنة . فالاكتئاب قد أنجز ما لم ينجزه أحد في لبنان، مرض قد يصيب جميع اللبنانيين ولا يستثني أي من الطبقات الاجتماعية والفئات العرقية.