في العام 1992 لامس سعر صرف ​الدولار​ الأميركي الواحد في السوق المحلّي سقف الثلاثة آلاف ليرة، علمًا أنّه كان قبل عقد واحد من ذلك، أي في العام 1982 بحدود الخمس ليرات للدولار الواحد! وبالتالي منذ أن ذاق ال​لبنان​يّون طعم إنهيار العملة المحلّية في النصف الثاني من حقبة الثمانينات، مُرورًا بسياسة تثبيتها المُعتمدة من قبل حاكم ​مصرف لبنان​ ​رياض سلامة​(1) منذ نحو ربع قرن، يعيش اللبنانيّون هاجس تكرار تجربة إنهيار الليرة. فهل يُوجد فعلاً خطر حقيقي بإرتفاع سعر صرف الدولار الأميركي الواحد إلى 3000 ليرة لبنانية، أم أنّ ما يُردّده البعض في هذا المجال مُجرّد إشاعات مُغرضة؟.

بحسب الإقتصاديّين المُشكّكين بثبات العملة الوطنيّة، فهُم ينطلقون من جملة من الوقائع والمُعطيات، وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي بشكل مُبسّط وبعيدًا عن تعقيدات الأرقام:

أوّلاً: إنّ إرتفاع الفوائد ينعكس سلبًا على كلفة ​الدين العام​، وكذلك على كلفة الإقتراض من قبل القطاع الخاص، الأمر الذي يُؤثّر سلبًا على النُموّ الإقتصادي.

ثانيًا: تُعاني المصارف من شحّ في السيُولة بالليرة اللبنانيّة بسبب توظيف الجزء الأكبر من أموالها في سندات الخزينة بالليرة، وبفعل مدّها القطاع العام بتسليفات مالية كبيرة، والقطاع الخاص بتسليفات مالية أصغر حجمًا.

ثالثًا: إنّ الفوائد المُرتفعة وحتى السخيّة التي يُقدّمها مصرف لبنان للمصارف اللبنانيّة في مُقابل ودائعها لديه، ساهمت في إستهلاك قدراته، إلى جانب الضُغوط الماليّة التي يتعرّض لها لتلبية الكثير من الإستحقاقات، على الرغم من أنّها ليست كلّها داهمة، بل هي على مراحل، لكنّ خطرها يكمن في ضخامتها.

رابعًا: بسبب تحوّل أصول المصارف إلى إئتمان للقطاع العام، فقدت المصارف دور الوسيط الذي يُفترض أن تلعبه في دورة النشاط الإقتصادي الطبيعي، وصارت مُتأثّرة بالوضع المالي الصعب والضعيف للقطاع العام، الأمر الذي إنعكس سلبًا على وضعها المالي وعلى سيولتها النقدية المُتحرّكة.

خامسًا: لبنان سيصل قريبًا إلى مرحلة من العجز المالي الكامل، نتيجة إنعدام التوازن بين الواردات والمصاريف، الأمر الذي من شأنه أن يُهدّد الإستقرار المالي بشكل تام.

في المُقابل، وإضافة إلى الأرقام الإيجابيّة التي أعلنها الحاكم سلامة، بشأن إرتفاع إحتياطي البنك المركزي خلال أوّل شهرين من العام الحالي وبشأن فائض ميزان المدفوعات، وبحسب الإقتصاديّين الواثقين من ثبات سعر صرف الدولار في المرحلة المُقبلة، فهم ينطلقون بدورهم من جملة من الوقائع والمُعطيات، وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: إنّ مصرف لبنان لن يتوقّف عن سياسة دعم الليرة كما يُطالب البعض، وهو مُصرّ على التدخّل في السوق للحفاظ على تثبيت سعر صرف الليرة، مهما تطلّب هذا الأمر من إستهلاك لإحتياطه الحالي من الدولار والعملات الأجنبيّة.

ثانيًا: إنّ حجم الإحتياط النقدي الذي يملكه المصرف المركزي كبير، ما يؤكّد قدرة المصرف على التعامل مع أزمة تطول لأسابيع عدّة، وليس مُجرّد أزمة عابرة لبضعة أيّام، علمًا أنّ إحتياطي الذهب كفيل بدوره بزيادة عوامل الإطمئنان.

ثالثًا: إنّ 65 % من الودائع في لبنان هي بالدولار، ما يعني أنّ المُودعين الذين قد يُحوّلون أموالهم من الليرة إلى الدولار أو إلى أي عملة أجنبيّة، يُشكّلون الأقليّة.

رابعًا: إنّ رفع الفوائد المَصرفيّة على الودائع بالليرة اللبنانيّة أغرى الكثير من المُودعين، حيث جمّدوا حساباتهم لفترات زمنيّة طويلة نسبيًا تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنة كاملة، الأمر الذي يُساعد في تهدئة السوق.

خامسًا: إنّ المُؤتمرات الدَوليّة التي ستنعقد لدعم لبنان، لا يُمكن إلا وأنّ تُعزّز الأجواء الإيجابية العامة، وأن تعود بالفائدة على القُدرات المالية للدولة، ولوّ عبر قروض لا تُسهم في الواقع سوى بإرجاء المُشكلة بضع سنوات إلى الأمام.

في الختام، صحيح أنّ الكثير من الخُبراء الإقتصاديّين ينتقدون السياسة المالية لمصرف لبنان وللدولة اللبنانيّة ككل، لجهة أنّها تُعطي الأولويّة لثبات النقد المالي وليس لتحريك الدورة الإقتصادية بشكل طبيعي، ولجهة أنّها تُغرق لبنان بالديون بدلاً من اللجُوء إلى خطّة إقتصاديّة وماليّة مُنتجة، لكنّ الأصحّ أنّ هذا الموضوع ليس بجديد على الإطلاق، وليس له أيّ تأثير مُباشر وفوري على ثبات سعر الليرة. وبالتالي، من الضروري وقف الحديث عن خطر إنهيار الليرة، ووقف الترويج لخبر إرتفاع سعر صرف الدولار الأميركي إلى 3000 ليرة لبنانيّة، للمُساعدة في الحفاظ على أموال اللبنانيّين، ولدعم ​الإقتصاد اللبناني​ ولوّ معنويًا. وفي الوقت عينه، على الجميع رفع الصوت عاليًا، بأنّ الآوان قد حان لإطلاق خطّة عمل إقتصاديّة وماليّة غير خطط الإستدانة المُستمرّة منذ عقدين ونصف العقد، لكن من دون تهديد الإستقرار النقدي القائم في لبنان. وهذا يعني أنّ الإصلاحات الماليّة والإقتصاديّة مطلوبة اليوم قبل الغد، لكنّها يجب أن تتمّ في ظلّ أجواء هادئة ومُستقرّة، وليس في ظلّ أجواء مُضطربة تُغذّيها إشاعات وحملة إعلامية تخيف اللبنانيّين وتُهدّد بضرب سعر عملتهم الوطنيّة وقيمة أموالهم!.

(1) عُيّن رياض سلامة حاكمًا لمصرف لبنان في الأوّل من آب 1993، لمدّة 6 سنوات، قبل أن يتمّ التجديد له في منصبه أربع مرّات.