كما كان متوقّعًا، فإنّ "تواضع" الترشيحات الفرديّة إلى الانتخابات النيابيّة المقبلة في الأيام الأولى من فتح باب الترشيحات تبدّد دفعةً واحدةً في الأيام الماضية، بل في الساعات الأخيرة، التي حملت معها العديد من "المفاجآت"، ليس فقط لجهة أعداد المرشحين التي تضاعفت، من دون سابق إنذار، مسجّلة أرقامًا قياسية غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات ال​لبنان​ية، ولكن قبل ذلك لجهة "الاندفاعة" غير المسبوقة لبعض النجوم والمشاهير لخوض السباق الانتخابيّ.

وإذا كان كثيرون يعتبرون أنّ ​القانون الانتخابي​ّ القائم على النسبيّة للمرّة الأولى في تاريخ لبنان ساهم إلى حدّ بعيد في هذه "الطفرة" مع اعتقاد كثيرين أن فرص دخولهم الندوة البرلمانيّة باتت أكبر من أيّ وقتٍ مضى، وهو ما تجلى خصوصًا مع الارتفاع الهائل في نسبة المرشحات الإناث، فإنّ عدم نضوج التحالفات بصورتها النهائية حتى الساعة ينذر بإمكان خروج عددٍ كبير من المرشحين من السباق في وقتٍ لن يكون بعيدًا...

دوافع بالجملة...

على الرقم 976، رست بورصة الترشيحات إلى الانتخابات النيابيّة المقبلة، رقمٌ ضرب بقوة الرقم القياسيّ السابق للترشيحات الذي سُجّل في العام 2009، واقتصر على 702، مقدّمًا دليلاً إضافيًا على توق ​الشعب اللبناني​، بمختلف شرائحه، إلى استحقاقٍ انتخابيّ حُرِم منه قسرًا على مدى تسع سنواتٍ كاملة نتيجة مسرحيّات التمديد المتكرّرة. ولعلّ ما ضاعف من أهمية الرقم تمثّل بالسباق المحموم نحو النيابة من قبل شخصيّات عامة معروفة، ولا سيما في مجال الإعلام والفن، بشكلٍ غير مسبوق، الأمر الذي أثار جدلاً واسعًا عن الأسباب والخلفيات والحوافز.

بادئ ذي بدء، لا شكّ أنّ طبيعة القانون الانتخابي وما خلقه من إرباكٍ، ولو متواضع، في صفوف الأحزاب السياسية التقليدية، شكّل دافعًا أساسيّا لرفع نسبة الاقبال على الانتخابات. فعلى الرغم من أنّ النسبية التي نصّ عليها القانون الانتخابي أتت مشوّهة، كما أصبح معروفًا للقاصي والداني، وعلى الرغم من أنّ القانون أتى مفصّلاً على قياس الأحزاب التقليدية، التي ستبقى قادرة على التحكّم بالأغلبية في البرلمان بشكلٍ أو بآخر، من دون منح خصومها ومعارضيها، ولا سيما المستقلّين منهم، القدرة على الخرق بشكلٍ واسعٍ، إلا أنّ القانون خلق في الوقت نفسه هامشًا، بات معه من الصعب التكهّن بنتائج الانتخابات بشكلٍ كامل، خصوصًا في ضوء تعقيدات الحاصل الانتخابي والصوت التفضيلي وسائر المفاهيم التي استحدثها القانون للمرّة الأولى في النظام الانتخابيّ اللبنانيّ.

لكن، إلى جانب القانون الانتخابيّ، والتوقعات التي أفرزها، فإنّ الواضح أنّ الواقع السياسيّ لعب دوره أيضًا في رفع نسبة الحماسة للمشاركة في الانتخابات، خصوصًا في ظلّ موجة "الامتعاض" من ممارسات قوى السلطة، حتى في داخلها، وهو ما تجلّى بشكلٍ واضحٍ من خلال حذر بعض الأحزاب في الإعلان عن أسماء مرشّحيها، بما فيها تلك التي سبق أن ابتكرت "آليّات" أعطتها الطابع العلميّ لاختيار المرشّحين، بما يجنّبها أيّ ردّات فعل غير محسوبة. وبدت فاقعة في هذا السياق "الانقلابات" التي بدا بعض النواب مستعدّين لها من أجل الحفاظ على مقاعدهم النيابية، حيث اختار بعضهم الانضمام إلى "الخصوم" أو تشكيل لوائحهم الخاصة بعدما اختارت أحزابهم تغييبهم عن السباق، بكلّ بساطة.

ولا يبدو مبالَغًا به القول إنّ التغييرات في الهيكليّة الديموغرافية للبلد لعبت دورها أيضًا، خصوصًا أنّ ربع شباب لبنان سيقترعون في الانتخابات النيابية للمرّة الأولى، على اعتبار أنّ من بلغوا سنّ الاقتراع بعد انتخابات العام 2009، أي 21 سنة، لم يقترعوا سابقاً، وهذه الفئة تشكّل جيلاً كاملاً. ومن هنا، يراهن كثيرون على أنّ هؤلاء الشباب قادرون على إحداث "مفاجأة" في الانتخابات تقلب كلّ المقاييس والمعادلات، وإن كان ذلك مستبعَدًا أيضًا بنسبةٍ كبيرة، نظراً لانخراط الكثير من هؤلاء الشباب في الأحزاب التقليديّة وتبنّيهم بالتالي للوائحها "زي ما هيي".

عوائق بالمرصاد!

هكذا، تبدو مبرّرة الاندفاعة نحو الترشيح، مسبوقة كانت أم غير مسبوقة، ومن جانب القوى السياسية أو التغييرية أو حتى من المشاهير، في ظلّ انتخابات تجري بعد تسع سنوات من الحرمان، وعلى وقع قانونٍ انتخابيّ جديد يُجرَّب للمرّة الأولى، ويشكّل تحديًا للجميع من دون استثناء. إلا أنّ القصّة لا تنتهي هنا، فالعوائق يبدو أنّها ستبقى بالمرصاد حتى إشعارٍ آخر، في ظلّ ما يُحكى عن تهديدٍ جدّي بتراجع عدد المرشحين قبل السادس والعشرين من آذار الحالي، بسبب الانسحابات "الطوعية" المتوقعة لبعض المرشحين، و"القسرية" لغيرهم.

فإذا كان الكثير من المرشحين اندفعوا لتقديم ترشيحاتهم، من دون حسم التحالفات التي تُترَك على ما يبدو حتى اللحظة الأخيرة، فإنّ القانون الانتخابيّ منح جميع المرشحين مهلة تنتهي في السادس والعشرين من آذار للانضواء في لوائح انتخابيّة، وإلا أخرِجوا من المنافسة بالضربة القاضية. وحتى الآن، لا يبدو أمر تشكيل اللوائح محسومًا بالنسبة لمعظم القوى، بما فيها قوى السلطة نفسها، العاجزة حتى اللحظة عن بتّ أمر تحالفاتها، رغم كلّ النظريّات التي تُطرَح هنا وهنالك، تارةً عن عدم الحاجة للتحالف مع أحد، وطورًا عن تحالفاتٍ على القطعة وفق ما تقتضيه المصلحة الانتخابية.

وإذا كان أمر أحزاب السلطة على هذه الشاكلة، وهي القادرة في أسوأ السيناريوهات على خوض الانتخابات بمفردها، ولو شكّل ذلك مخاطرة بالنسبة لها، فإنّ الخشية الأكبر تبقى على القوى المستقلة، التي لا توحي المعطيات بأنّ تحالفها فيما بينها على امتداد لبنان مُتاح، في ظلّ التباينات المستمرّة بين مكوّناتها المختلفة، علمًا أنّ هناك من يقول إنّ ذلك لا يهدّد فقط عدم قدرتها على تأمين الحاصل الانتخابيّ نتيجة تشتيت الأصوات فيما بينها، بل إنّ ذلك يهدّد عدم قدرتها على خوض المنافسة من أصلها، نتيجة عدم قدرتها على تركيب لوائح ولو كانت غير مكتملة، من دون أن ننسى حاجة هذه القوى كما غيرها إلى روافع للوائحها، من "أصحاب رأس المال"، على اعتبار أنّ سقف الانفاق الذي نصّ عليه القانون مرتفع جدًا، ما يمكن أن يؤثر على تكافؤ الفرص بين مختلف القوى.

من هنا، يعتقد كثيرون أنّ عدد المرشحين الذين تقدّموا بترشيحاتهم قد يتراجع في المهلة الفاصلة لتسجيل اللوائح إلى ما دون النصف حتّى، خصوصًا أنّ لا مكان للمستقلّين في هذه الانتخابات، كما كان الوضع في انتخابات العام 2009، وبالتالي فإنّ من لا يجد مكانًا له ضمن لائحة، يخرج تلقائيًا من المنافسة، علمًا أنّ بعض المرشحين، ولا سيما المرشحات، تمّ اختيارهم على طريقة "رفع العتب" في بعض الدوائر التي إما تسعى الأحزاب لإخضاعها لمفاوضات اللحظة الأخيرة، أو لا تجد نفسها قادرة على الفوز بها، فقرّرت ضرب أكثر من عصفور بحجر.

الغريب...

ليس غريبًا أن يقبل اللبنانيون بهذه الحماسة وهذا الاندفاع إلى الانتخابات النيابية المقبلة، وأن يراهنوا عليها لتحقيق تغيير طال انتظاره، حتى ولو كُتِب للحلم النهاية في منتصف الطريق، كما تشير الكثير من التوقعات.

أما الغريب فهو أن تبقى الانتخابات، رغم كلّ ذلك، محطّ تشكيكٍ من قبل الكثيرين في الداخل والخارج، وهنا بيت القصيد الذي يشير إلى لبّ المشكلة، مشكلة قد تتحوّل إلى فضيحة إذا ما حصلت فعلاً، وطارت الانتخابات في اللحظة الأخيرة لهذا السبب أو ذاك...