قطع رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ نصف الطريق، في اتجاه الانتخابات النيابية التي ستجري في السادس من أيار، وأعلن أخيرًا لائحة مرشحي "​تيار المستقبل​" الرسميّة إلى الاستحقاق الموعود، بانتظار بتّ التحالفات في الساعات القليلة المقبلة.

لم تخلُ ترشيحات "المستقبل" من المفاجآت، ليس فقط لجهة "تحرّر" الرجل من "إرثٍ" طويل كرّسته وجوهٌ نيابيّة احتكرت التمثيل "الأزرق" منذ ما قبل اغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، ولكن أيضًا لجهة إدخاله عنصر الشباب بشكلٍ واضح، وإن كان مستغرَبًا أن يكون معظم هؤلاء من "أبناء السياسيين"، ما يكرّس "الوراثة السياسيّة".

وإذا كانت ملامح "تمرّد" لدى البعض بدأت بالظهور مباشرةً بعد إعلان الحريري ترشيحاته، تمامًا كما يحصل مع العديد من الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، فإن المفاجئ في "مضمون" احتفال "المستقبل" هو غياب السياسة عن مضامينه، لدرجة أنّ "الشيخ سعد" لم يذكر "​حزب الله​" في خطابه، لا مباشرةً ولا مواربةً...

"انقلابٌ متأخّر"؟!

رغم كلّ ما سُرّب في الآونة الأخيرة عن ارتباكٍ وتردّد يشعر بهما تيار "المستقبل"، الذي صُنّف بأنه الخاسر الأول في الانتخابات، لم يتأخّر التيار "الأزرق" عن دخول "اللعبة" من بابها العريض، فكان من أوائل الأحزاب التي أعلنت ترشيحاتها في مختلف الدوائر الانتخابيّة، بعد الثنائيّ الشيعيّ، في وقتٍ تتريّث بعض القوى الأخرى، وعلى رأسها "​التيار الوطني الحر​"، الذي أرجأ الإعلان حتى الرابع والعشرين من شهر آذار الجاري، ريثما يبتّ تحالفاته.

من هنا، يمكن القول إنّ مجرّد إقدام الحريري على إعلان الترشيحات، متخطيًا كلّ الحواجز والمطبّات التي زرعها البعض في طريقه، يشكّل نقطة تُسجَّل له من حيث الشكل، إلا أنّ ملاحظاتٍ كثيرة يمكن وضعها في الشكل أيضًا على ترشيحات "المستقبل"، بدءًا من استبعاد وجوهٍ نيابيّة لطالما ارتبط اسمها بالتيّار، منذ أيام والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، ولذلك علاقة بـ"تمرّد" هؤلاء عليه، خصوصًا أنّ أغلب المُستبعَدين كانوا ممّن وقفوا في المحور المناهض له بعد استقالته الشهيرة، وصولاً إلى تكريس وجوه جديدة بالجملة، مع تغليبٍ واضحٍ لفئة الشباب. وإذا كان ذلك جعل كثيرين يعتبرون أنّ "الشيخ سعد" يقود "انقلاباً متأخراً" على من "انقلبوا" عليه، فإنّ ثمة اعتقاداً في المقابل بأنّه سيواجه بعض التداعيات، التي بدأت ملامحها بالظهور في أكثر من مكان، وما حديث النائب كاظم الخير على سبيل المثال لا الحصر عن "غدرٍ" تعرّض له، وإعلانه المضيّ في المعركة ولو من خارج العباءة "الزرقاء" سوى غيض من فيض ما ينتظره على هذا الصعيد.

إلا أنّ ما سجّله كثيرون كنقطةٍ سلبيّة لا إيجابيّة تمثّل بعلاقة "القرابة" بين معظم الشباب الذين رشّحهم الحريري والجيل الأقدم من السياسيّين، سواء داخل "المستقبل" أم خارجه، إذ حملت لائحة "المستقبل" بين صفوفها مثلاً نجل النائب أحمد فتفت، ونجل النائب السابق وليد عيدو، ونجل النائب السابق وجيه البعريني، إلى آخره من الأسماء التي حفلت بها اللائحة "الزرقاء". في المقابل، إذا كان يُسجَّل للحريري تسميته أربع نساء ضمن مرشحي "المستقبل"، فإنّ ذلك لا يرقى للمستوى الذي كان يعد به أثناء التحضير للانتخابات، حيث كانت الوعود بـ"كوتا طوعيّة" تصل إلى ثلاثين بالمئة، بل ذهب البعض لحدّ الحديث عن أنّ كلّ لوائح "المستقبل" في كلّ المناطق من دون استثناء سيكون فيها نساء.

السياسة خجولة...

في الشكل والمضمون، كانت بعض الأسماء التي حملتها لائحة "المستقبل" مفاجئة، كاسم نقيب المعلمين الأسبق نعمة محفوض، فالرجل الذي خاض معركة قبل أقلّ من عام على نقابة المعلمين في وجه "المستقبل" وسائر أحزاب السلطة، التي "احتفلت" جماعاتها بإقصائه عن مركزه النقابيّ بعدما بُحّ صوته وهو يطالب بإقرار سلسلة الرتب والرواتب، وساحات الاعتصامات شاهدة عليه، والذي حاول الانخراط في لوائح "المجتمع المدني"، على اعتبار أنّه جزءٌ منه، تمّ الإعلان عنه كمرشح رسميّ لتيار "المستقبل"، وليس حتى من "الحلفاء"، بما أنّ الحريري كان واضحًا بأنّ التحالفات متروكة لوقتٍ لاحق.

قد يكون هذا المثل هو الأكثر تعبيرًا عن حال الترشيحات والتحالفات وكلّ ما يمتّ لهذه الانتخابات بصلة، والتي يبدو أنّ السياسة ستكون الغائبة الأكبر عنها، تمامًا كما غابت عن خطاب الحريري الانتخابيّ، أو حضرت بخجل في أفضل الأحوال، حيث كان لافتًا تغليب الحديث عن الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي على ما عداه، في وقتٍ غاب "حزب الله" على غير عادة عن البازار الانتخابي، ولم يحضر سلاحه مادة دسمة للاستهلاك السياسيّ والتوظيف الانتخابيّ، رغم أنّ كلّ التجارب السابقة واللاحقة تؤكّد صلاحيّته للاستخدام عند ساعة الجدّ.

عمومًا، فإنّ كثيرين يردّون "انكفاء" الحريري عن الحديث السياسي المباشر والصريح إلى التحالفات التي ما تزال تحتاج لبعض البلورة، وهي التي ستفرض على "المستقبل" وغيره خوض الانتخابات وفق المصالح الانتخابيّة حصرًا، بعيدًا عن الخصومات السياسية، وإن كان مؤكّدًا أنّ الأخيرة لن تغيب بالمُطلق، خصوصًا في بعض الدوائر الحسّاسة الي يخوض "المستقبل" معركتها بمفرده. ولعلّ مفهوم "التحالفات بالقطعة" يختصر الحاجة إلى إبعاد السياسة عن البازار الانتخابيّ، فـ"المستقبل" مثلاً، رغم عدم تحالفه مع "حزب الله" في أيّ من الدوائر، متحالفٌ مع حليفه "التيار الوطني الحر" في عددٍ كبير من الدوائر، وربما مع "القوات" في غيرها، الأمر الذي يتعذّر معه الحديث عن تحالفاتٍ سياسيّة أو استراتيجيّة في أيّ حالٍ من الأحوال.

"متمرّدون" بالجملة!

ليست المشاكل الداخليّة جديدةً على "تيار المستقبل"، فلطالما كان هناك حديث عن "صراع أجنحة" داخل التيّار، كان يُقال إنّ الأول كان رئيس التيّار سعد الحريري يقوده، فيما يقود الثاني رئيس "الكتلة الزرقاء" فؤاد السنيورة.

رويدًا رويدًا، نجح الحريري كيف ينهي هذا الصراع، مع خروج "الصقور"، المحسوبين على السنيورة، أو اعتكافهم في أفضل الأحوال، إلى أن سقط السنيورة نفسه، ولو بملء إرادته، نتيجة الصوت التفضيلي وتعقيداته.

وسواء كان السنيورة "ضحية" هذا الصوت التفضيلي، كما يحلو للبعض أن يقول، أو ضحية "تمرّده"، وفق رواياتٍ أخرى، فإنّ الانتخابات المقبلة إما تفرز فريقاً "مستقبليًا" متجانسًا مع رئيسه، وإما تفرز المزيد من "المتمرّدين"، وهنا بيت القصيد...