منذ ما قبل بدء الحملات الانتخابيّة، رفعت "​الكتائب اللبنانية​" سقف التفاوض مع الأحزاب السياسيّة، بعدما صنّفت نفسها في خط المعارضة، الذي رأت أنّه يخدمها شعبيًا، وحاولت أن تتموضع في مصاف قوى المجتمع المدني.

من منطلق قوة ذاتية، حدّدت "الكتائب" موقفها: لا للتفاوض مع أيّ من أحزاب السلطة إلا إذا استقال من الحكومة. برأي كثيرين، كان هذا "المبدأ" مصوّبًا بشكلٍ خاص ومباشر على "​القوات اللبنانية​"، التي تتّهمها "الكتائب" أصلاً بأنّها من أقصتها عن الحكومة، على طريقة "الاحراج فالاخراج".

لكن، يبدو أنّ هذا "السقف" وهذه "المبدئيّة" سقطا اليوم بضربة "المصالح الانتخابيّة"، التي فاقم القانون الانتخابيّ من "حساسيّتها". "القوات" لم تستقل من الحكومة لغاية تاريخه، غير أنّ "الكتائب" أعلنت "شبه تحالف" معها، ولو بقي محصورًا في دائرتي بيروت الأولى وزحلة حتى إشعارٍ آخر. فما الذي حصل؟!

تحالف طبيعي؟!

ما يجمع "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية" أكثر ممّا يفرّق بينهما. قد تختصر هذه العبارة "الكليشيه" الصورة لكثرة ما يعتمدها القياديّون في الحزبين كلما أرادوا تبرير تقارب يناقض كلّ الأدبيات التي دأبوا عليها في الآونة الأخيرة، التي شهدت ما يمكن تسميته بـ"حفلات الجنون" بين الجانبين التي بدأت منذ التفاهم الشهير بين "القوات" و"​التيار الوطني الحر​"، ووصلت إلى أوجها مع إقصاء "الكتائب" عن الحكومة مقابل رفع حصّة "القوات" فيها.

يومها، بدا أنّ ما يفرّق بين الجانبين هو الذي يطغى على ما يجمع بينهما، خصوصًا أنّ المعارك بينهما، الافتراضية منها والحقيقية، والتي استُخدِمت فيها كافة أنواع "الأسلحة"، المحرّمة بين الأصدقاء وليس فقط بين الحلفاء، لم تترك للودّ قضية، بل لم تحفظ أيّ خطٍ للرجعة، وهي التي استدعت غير مرّة تدخّل قيادات الصفّ الأول في الحزبين في محاولةٍ لرأب الصدع، ومنع تفاقم الأمور ووصولها إلى ما لا تُحمَد عقباه.

لم تكتفِ "الكتائب" باتهام "القوات" بأنّها وراء عزلها، ليس في الحكومة فحسب، بل قبل ذلك من خلال تفاهمها مع "التيار" الذي أرادا من خلاله "احتكار" الساحة المسيحية، ولكنّها وضعتها في الخط نفسه مع رموز السلطة، واعتبرتها بالتالي شريكة ومتواطئة لهم في كلّ صفقات الفساد التي لم تكن تفوّت فرصة من دون إثارتها، في المجلس النيابي وخارجه. وفي المقابل، لم تتأخّر "القوات" في ردّ الصاع صاعين لـ"الكتائب"، مذكّرةً إياها بأنّها في السلطة قبل "القوات"، ومتّهمة إياها باعتماد "الشعبوية" في سياق محاولاتها للحصول على "مكاسب انتخابية"، قد تكون بأمسّ الحاجة إليها، مشدّدة على أنّ تفاهمها مع "التيار" كان لصالح المسيحيّين، وأنّ "الكتائب" هي التي رفضت الانضمام إليه، وليس العكس.

رغم كلّ ذلك، فإنّ هناك من يصرّ على أنّ كلّ هذه التفاصيل ثانوية وهامشية، وأنّ التحالف بين "القوات" و"الكتائب" هو الطبيعي والبديهي، وسط كمّ التحالفات الانتخابية "غير الطبيعية" على امتداد الدوائر الانتخابية، والتي لا تمتّ إلى الواقعية والمنطق بصلة. ويشرح هؤلاء وجهة نظرهم بالقول إنّ حزبي "القوات" و"الكتائب" متفاهمان بالحدّ الأدنى على رؤية سياسية واستراتيجية شبه واحدة، تتلاقى مع رؤية ما كان يُعرَف بـ"14 آذار"، التي يصرّ للمفارقة كلّ من "القوات" و"الكتائب" على أنّه ما يزال يجسّدها حتى اليوم. وانطلاقاً من ذلك، فإنّ المستغرَب هو استغراب التقارب بينهما وليس العكس، بطبيعة الأحوال.

"بدل عن ضائع"!

قد يكون هذا الاستنتاج بـ"بديهية" التحالف بين "القوات" و"الكتائب" منطقيًا لو أتى في ظروفٍ طبيعيّة، وليس في مثل هذه الظروف السياسيّة والانتخابيّة، التي يبدو أنّها فرضت التقارب بينهما في اللحظة الأخيرة، وكأنّه "بدل عن ضائع" ليس إلا، بعد اصطدام الخيارات الانتخابية لكلّ من الفريقين بالحائط المسدود على أكثر من مستوى.

وفي هذا السياق، ليس سراً أنّ "القوات" كانت تسعى لخوض الانتخابات على أساس تحالف واسع وعريض مع "​تيار المستقبل​"، ومن خلفهما "التيار الوطني الحر"، فإذا بالمفاوضات مع الجانبين تتعثّر في أغلب الدوائر، بل إنّ المفارقة التي لم تستطع بلعها أن التيارين "الأزرق" و"البرتقالي" تعاملا معها خلال المفاوضات وكأنّها ستكون "ملحقة" بهذا التحالف، على طريقة "جوائز الترضية"، وهو ما لم تقبله "القوات"، التي تعتبر أصلاً أنّها تستطيع بقدراتها الذاتية العودة إلى البرلمان بكتلةٍ توازي حجم كتلتها الحاليّة بالحدّ الأدنى.

في المقابل، ليس سراً أيضًا أنّ "الكتائب" لا تعيش أفضل أيامها، بعدما ثبت أنّ كتلتها النيابية الحاليّة، على صغر حجمها، مهدّدة بالتقلّص إلى الحدود الدنيا، في حال عدم "ابتكار" تحالفاتٍ يمكن أن تنقذ ماء وجهها. وإذا كانت "الكتائب" رفعت السقف عاليًا في اللحظات الأولى، فإنّها وجدت نفسها في الأيام الأخيرة مضطرة لـ"التواضع" بعض الشيء، بعدما ظهر لها أنّ تحالفها مع المجتمع المدني لن يكون كافياً لتحقيق الكثير، علمًا أنّ المجتمع المدني خيّب آمالها في أكثر من مكان، بإعلان بعض مجموعاته رفضه التحالف معها، واعتبارها رغم كلّ مواقفها المعارضة جزءًا من "السلطة"، حتى أنّ إحدى المجموعات المدنية الأساسيّة أعلنت أنّها منفتحة على التحالف مع أيّ كان، شرط أن لا يكون ممثلاً في الحكومة أو المجلس النيابي، والاشارة الأخيرة بدت "الكتائب" هي المقصودة فيها.

وإذا كان التحالف شبه المُعلَن بين "القوات" و"الكتائب"، وإن كان ينتظر اللمسات الأخيرة خصوصًا في صف "الكتائب" في ظلّ ما يُحكى عن حالات "تململ" في صفوفه، مقتصرًا على دائرتي بيروت الأولى وزحلة حتى اللحظة، فإنّ ذلك أيضًا مرتبط بالحسابات الانتخابية في هاتين الدائرتين، اللتين وجدت "القوات" و"الكتائب" نفسهما فيهما في مواجهة "غير متوازنة" مع القوى والأحزاب الأخرى. إلا أنّ المفاوضات مستمرّة بين الجانبين في العديد من الدوائر الأخرى، ك​بعبدا​ و​كسروان​ والشمال وغيرها، لنسج التحالفات، لكنّ ذلك يبدو مستبعَدًا حتى اللحظة، نتيجة جهوزية معظم اللوائح في هذه الدوائر على أساس عدم التحالف، وعدم وجود مؤشرات تدلّ على نيّة أحد "التضحية" من كيسه لصالح غيره، خصوصًا في ​البترون​ مثلاً حيث يشترط "الكتائبيّون" سحب "القوات" لترشيح فادي سعد، الأمر غير الوارد بالنسبة لـ"القواتيين" الذين يعتبرون أنفسهم "أم الصبي" في البترون.

"اللهم نفسي"

خرجت "الكتائب" عن مبدئيّتها بفعل الضرورة إذاً. لكنّ كلمة حقّ تُقال أنّها ليست الوحيدة التي أقدمت على مثل هذا الفعل، بل قد تكون من بين قلّة بقيت محافظة على هذه "المبدئيّة" حتى ربع الساعة الأخير قبل "المعركة"، التي يبدو أنّ حماوتها ستتفوّق على سخونة أيّ معركة سابقة أو لاحقة لها.

قد يكون مبالَغًا به القول إنّ "المبدئية" باتت عملة نادرة، أو ربما مستحيلة الوجود، ولكنّ الأكيد أنّ القانون الانتخابيّ جعل التوازن بينها وبين تحقيق المكاسب أمراً بعيد المنال، كيف لا وهو القانون الذي اصطلح معظم السياسيين على توصيفه بقانون "اللهم نفسي"، في إشارة إلى أنّه يفرض "الأنانية" في المقاربة، بعيداً عن أيّ حرص على الحلفاء والأصدقاء...