تتواجد في ​بيروت​ الكثير من الأبنية القديمة التي تحفظ بين جدرانها وفي ثقوبها قصص صراع البشر في الحروب التي توالت عليها. هذه الأبنية التي شهدت على كل تاريخ بيروت الحديث، تشهد مرة جديدة على صراع لكن من نوع آخر. فبين مشروع قانون حماية المواقع و​الابنية التراثية​ الذي أقرّه مجلس الوزراء بتاريخ 12/10/2017، وبين أصحاب المباني القديمة الرافضة لهذا القانون، صراع حقّ يظهر إلى الواجهة من جديد.

في نص القانون المذكور، الدولة تُعفى تماماً من تحمل نفقات التعويضات لأصحاب هذه العقارات، كما أن الدولة تُعفى تماماً من عمليّات ترميم هذا المبنى التراثي ويبقى العبء على كاهل صاحبه. ومن ثم ينقل القانون عامل الاستثمار من عقار إلى آخر، أي "بيع الهواء" لصاحب العقار التراثي في عقار آخر تعويضاً عن القيمة المفقودة من استثمار العقار التراثي. وبالتالي، فإن حماية هذه المباني التراثية سيؤدّي إلى تشويه سماء بيروت. فببساطة، عندما تأخذ ​وزارة الثقافة​ ملكيّة المبنى التراثي، يأخذ صاحبه الأساسي ملكيّة في هواء إحدى المباني الموجودة في محيط هذا العقار، ما يؤدّي لظهور مبانٍ شاهقة وغير متوازنة الطول في المنطقة الواحدة.

سجن لمدة سنة!

هنا، يشرح عضو نقابة المالكين القدامى المهندس محمد كنج، في حديث لـ"النشرة"، أن "فكرة الأمتار الهوائية، أتت من منطلق أن الدولة تريد أن تدعم المالكين القدامى، حتى يقوموا بأعمال الترميم، ولكنها لا تملك المال الكافي، ومن هنا قدمت لهم أمتارا وهمية يقومون هم ببيعها للحصول على المال"، معتبرا أن "هذا الموضوع هو لزيادة عامل الاستثمار في منطقة أخرى وفعليا لا قيمة لهذه الأمتار"، متسائلا: "من يحدّد سعر المتر المربع"؟.

ويشدد كنج على أن "المشكلة هي في القانون ويجب أن يكون هناك معايير محددة لتصنيف المنازل التراثية"، مشيرا الى أنه "في مشروع القانون يمكن للوزير المختصّ أو أي موظف في وزارة الثقافة أن يضع اشارة على المنزل الذي يعجبه ويصنفه على أساس أنه تراثي".

ويسأل كنج "لماذا الالتفاف على القانون؟ فهناك قانون للاستملاك الذي يسمح للدولة بأن تستملك أي عقار لمنفعة عامة مقابل أن تدفع سعره للمالك"، موضحا "أننا لا نريد ترك بيروت ومنازلنا، لكن لا يجب التدخل بحرية المالك. فالدولة بالاضافة الى أنها تجبره على ترميم المبنى على نفقته، فهي أيضا تجبره بنوعية محددة من المواد التي سيتم استخدامها في عملية الترميم، واذا لم يقم بالترميم، يسجن لمدة سنة"، معتبرا أن "المالك هو المستهدف وهو الحلقة الأضعف، ومن هذا المنطلق نطرح أن تشتري الدولة العقار من المالك وليس أن تبقيه بإسمنا ولا تسمح لنا بالتصرف فيه".

قانون تهجيري

أمام هذا الواقع، يعتبر عضو جمعية الأبنية القديمة وأحد المالكين سيرج كوراني أن "القانون الذي نظمته وزارة الثقافة، تهجيري وتفقيري لأهالي بيروت، فالطبقة الوسطى تحمّلت الكثير من ​سوليدير​ ومن ايجارات قديمة ومن المزايدات على العقارات والبيوت من المستثمرين"، مشددا على أن "مشروع القانون ظالم بحقنا، فهذه المنازل تمّ توارثها عن أجدادنا ولا يمكنهم أن يأخذوها منا".

وأوضح أنه "اذا صدر القانون فكل عقار سيخسر من قيمته 60 الى 80 بالمئة، وهم وعدونا بأمتار وهميّة في مناطق أخرى، وهي مثل "شيك بلا رصيد"، لأن كل مليون متر مربع هو 5 ألاف شقة بمساحة 200 متر هوائي، أي ليشتريهم السوق العقاري فهو بحاجة الى أن يبني لكل مليون متر مربع 50 ألف شقة ليأخذ 10 بالمئة من الامتار الهوائية ليحصل المالك على حقه".

حل وسطي

أمام حق المواطن في الاستفادة من أملاكه المصنفة تراثية، وحق الدولة في الحفاظ على هذا "التراث"، يبقى البحث ضرورياً عن حلٍّ وسطيٍّ يحفظ حقوق الجميع. في هذا السياق، يشدد الناشط المدني ​رجا نجيم​ في حديث لـ"النشرة"، على أن "الموضوع ليس مع أو ضد القانون، ففي كافة المجالات نرى أن الحكومة و​مجلس النواب​ ليسا مؤهلين للتشريع أو للتنظيم، فهذا القانون منقوص كغيره من القوانين، بسبب عدم فهمهما لحقيقة الوضع"، مؤكدا أنه "مع اغلاق الثغرات الموجودة في مشروع القانون لصالح المحافظة على ما تبقى من المباني التراثية واحترام الملكية الخاصة التي هي مطلقة ولكن استعمالها مشروط".

ويوضح نجيم أن "المشكلة الرئيسيّة هي بمشروع القانون لأنه لم يأخذ العنوان الأساس، وهو المحافظة على ما تبقى من مبانٍ تراثية دون التعدي على المُلك الخاص، ومع احترام المصلحة العامة وتحديد ما هي الابنية التراثيّة عبر معايير واضحة"، مشيرا الى أن "هذه المباني بالعموم هي ملك خاص لأشخاص أو بلدية حتى لو كانت ملك الدولة، ويجب الحفاظ على الملكيّة بشكل تكون محترمة ومصانة ومحددة البدل".

ويلفت الى أنه "في مشروع القانون نمشي بنوع من استملاك غير مباشر بدفع بدل تعويض مؤجّل، وهنا الاشكاليّة عند المالكين. فالمُلك الخاص يجب أن يعوّض لاصحابه ببدل عادل وصحيح، والقصة الأساس أن يُدفع البدل قبل أن يتم تسليم البناء"، مبيّنا أن "مشروع القانون يعطي مساحات بالمقابل، ولكن اذا لا يوجد امكانية استثمار المساحات فكأنك "أعطيت هواء". هذا النوع من القوانين ليست للتطبيق، وهي بحاجة لمراسيم تطبيقية معقدة".

ويضيف نجيم "عند الشراء يجب تحديد مكان الأمتار التي سيتم شراؤها وإلا الموضوع يصبح استثماريًّا. وبدوره المالك يعتبر أنه عندما تسمح لمستثمر أن يشتري تكون قيّدته، وهو الذي ورث المبنى. وفي المقابل لا يمكن أن يقول أن هذا ملك خاص لأنه تراثي ويجب ترميمه والمحافظة عليه، وهنا يوجد كلفة"، معتبرا أن "المالكين جشعون، ويجب عليهم أن يتقبلوا أن هناك مصلحة عامة اسمها تراث لبنان".

ويكشف نجيم لـ"النشرة" أن "هناك محاولة لعقد اجتماع بين مختلف الافرقاء المعنيين بهذا الملف لنصل الى اقتراح تعديل لمشروع القانون يناسب الجميع"، مشيرا الى أنه "كان المفترض أن يحصل هذا الاجتماع قبل صدور مشروع القانون، للمحافظة على ما تبقى من التراث، مع وجود بدل عادل ومباشر للمالك قبل تحويل ملكية الهواء الى المستثمر".

بين حق التاريخ علينا في حماية التراث، وحق الملكيّة التي يحفظها الدستور، يبقى المواطن هو الحلقة الأضعف، أما الحلّ الوحيد هو البحث عن قانون جديد يحمي أملاك المواطنين وحقّ الوطن في حماية تراثه.