أكد المطران بولس مطر، في عظة بمناسبة احتفال عائلة مدرسة الحكمة في ​بيروت​ بعيد شفيعها القديس يوسف، تناول فيها القديس يوسف والحكمة والتعليم في لبنان، أن "هذا الاحتفال بعيد القديس يوسف، شفيع الحكمة، هو الثالث والأربعون بعد المئة الذي يقام في الصرح برئاسة رعاته وحضور عائلته وأهله الأعزاء، إنه زمن متواصل من النعم والبركات يغدقها الرب على هذا المشروع التربوي الكبير الذي كان بحجم وطن ومنطقة، وسيبقى، ركائزه كانت منذ الأساس مبنية على صخرة العلم والأخلاق، على ما قاله فيه المطران المؤسس، وقد تدفقت منه ينابيع معرفة وثقافة سمحاء طالما ارتوت منها الأجيال متعاقبة على مدى قرن ونصف قرن من الزمن".

ولفت طر الى أنه "تغيرت أمور كثيرة في هذا الشرق خلال هذه الحقبة المليئة بالأحداث والعبر، ففي بدايتها كان الحكم العثماني يضعف بعد أن بسط ظله على النصف الشرقي لحوض ​البحر المتوسط​ برمته، فنهضت في إثره دول متعددة إلى الحياة لتملأ فراغ الأمبراطورية المتداعية"، ذاكراً أنه "كان لوطننا لبنان أن يحصى في عداد تلك الأوطان التي تحررت من حكم الخارج، لينهض بدوره إلى مرحلة السيادة والاستقلال، أسوة بدول المنطقة المحيطة وبعض دول أوروبا الشرقية على حد سواء".

وتابع باقول "لستم بحاجة لهذا العرض التاريخي لتدركوا أن مدرستكم هي عريقة إلى هذا الحد وأنها أسهمت في تحضير اللبنانيين لمطالبتهم باستقلال وطنهم، عبر التربية التي أغدقتها على تلامذتها من مسيحيين ومسلمين وسواهم، زارعة فيهم محبة صافية بعضهم لبعض، وعنفوانا وطنيا ذاع صيته واشتهر، فالحكمة كانت في طليعة المدارس التي تبنت قضية العيش المشترك وصار لبنان الواحد الموحد بجميع بنيه أمنية جيدة صاغتها في أحلام شبابها، وعملت من أجلها في واقعهم اليومي"، لافتاً الى أنه "رعت هذا الحلم كنيسة كانت لها تطلعات على شعبها ليصل إلى ذروة أمله بأن يبني مع أقرانه اللبنانيين وطنا مكتمل الأوصاف، وأن يبرز لهذا الوطن دور في منطقته بحمل لواء الحرية للجميع، ومعها حرية المعتقد والضمير، وبرفع مشعل الحضارة والإبداع في شرق كان بحاجة إلى أن يضرب لذاته موعدا مع الحداثة".

كما نوه مطر الى أنه "بعد هذه المرحلة الممتدة حتى بدايات القرن العشرين، انطلقت الحكمة في مواكبة الوطن ودولته الجديدة، مستمرة في تعليم الأجيال تلو الأجيال، وفي حثها على المحبة التي جمعت على الدوام سائر أبنائها، وقد أسهمت في التلاقي الخلاق بين الحضارة العربية التي أعلت شأن لغتها إلى قمم المجد أدبا وشعرا، وبين الحضارة الغربية المتمثلة آنذاك باللغة الفرنسية وآدابها، وفي كل ذلك بقيت الحكمة متمسكة بلبنان المستقل حتى توصلت إلى رؤية راعيها في العام 1943 وقد وقف في وجه الانتداب الفرنسي، على الرغم من صداقة عريقة له مع تلك البلاد، من أجل أن يصل لبنان إلى سيادته الكاملة واستقلاله الناجز"، مشدداص على أنه "استمرت المدرسة بعد نيل الاستقلال صعدا في عملها التربوي والوطني طوال فترة ما قبل الحرب الأخيرة التي اندلعت في بلادنا عام 1975، والتي كانت لها سلبياتها الكبرى على الوطن وتطوره ودوره، على غير صعيد، غير أننا صمدنا بنعمته تعالى واستفدنا من هذه الأحداث زارعين حكمات جديدة نشرناها على أرض الأبرشية، سواء في العاصمة بيروت أم على جغرافيتها المنفتحة شمالا وجنوبا، وقد توجنا هذا السعي بتشييد صرح جديد ل​جامعة الحكمة​ التي وسعنا مدى إشعاعها عبر كليات جديدة، بعد أن كانت في مطلعها نواة جامعية مقتصرة على المعهد العالي لتدريس الحقوق".

وأكد "اننا بقينا حتى يومنا هذا نتابع التطورات العلمية والثقافية ونتأقلم مع حاجات المجتمع عبر تخصيص فرع للحكمة يعتنق البرامج الإنكليزية والأميركية في منطقة عين سعاده، ومعهد مهني خاص يستقبل من ​الطلاب​ من سيحملون رسالة الإسهام في إعادة الوطن إلى عالم الإنتاج والصناعة بدلا من أن يتحول إلى مجتمع مرتكز على ​اقتصاد​ ريعي سريع العطب وهامشي التألق"، موضحاً أنه " لا نزيدكم علما إذا قلنا لكم إن الأحداث التي اندلعت في لبنان منذ العام 1975 والتي ما زلنا نعمل لإزالة ما علق منها في حياة الوطن من رواسب، قد أوصلت البلاد إلى حالة اقتصادية صعبة وأكاد أقول أيضا مزرية، لكننا نعمل ونصلي معكم من أجل أن يتعافى بلدنا وأن يعود إلى سابق عزه، حيث كانت الطبقة الوسطى فيه من أهم الطبقات مثيلاتها في العالم القريب والبعيد. وإننا في هذا العيد الفضيل، عيد شفيع التربية والعمل، عيد القديس يوسف البتول، نذكر مدرستنا هذه أمام الله ليلهم القيمين عليها أن يستمروا في خدمة القيم التربوية الفضلى وفي التطلع نحو كل ما هو أفضل لتهيئة أجيالنا، وإلى مواكبة الغد بكل طموحاته، ولنتخذ جميعا من هذه الفسحة الروحية التي يوفرها لنا العيد فرصة لنعقد العزم على خدمة لبنان بروح أخوية صافية، ومحبة وعطاء مجانيين ونحيي الرجاء حيث شحبت أنواره متخذين من صاحب العيد أمثولة في التضحية بالذات من أجل العائلة الأشمل، وفي التوكل على الله في أي مشروع تربوي عتيد".

وذكر أنه "غير أننا وباسم الصراحة عينها، نرى أمامكم ونرى معكم أيضا أن أزمة كبيرة تمر بها البلاد قد تكون الأخطر بالنسبة إلى كل الأحداث التي ابتلينا فيها في العقود الأخيرة. هذه الأزمة هي أزمة المدارس الخاصة في لبنان والمعروفة بالتزامها تعليم الأجيال، لقد بقينا من دون مساعدة الدولة لمدارسنا قرنا ونصف قرن من الزمن، والدولة لم تكن أصلا موجودة في القرن التاسع عشر، عندما كانت مدارسنا تعمل وتجهد. ولم تستطع الدولة في زمن الانتداب أن تقوم بمسؤوليات التعليم لكل أبنائها نظرا لعدم تمكنها آنذاك من التصرف بحرية كاملة، ولم تستطع حتى في زمن الاستقلال أن تؤمن التعليم لكل أبنائها، لأن طاقاتها لم تحضر بما فيه الكفاية من أجل القيام بهذه المسؤولية الخطيرة، وها نحن قد وصلنا اليوم إلى المأزق الكبير، فلم يعد الأهلون قادرين بغالبيتهم على تأمين التعليم لأولادهم وبخاصة مع الغلاء المستشري حتى في قطاع التعليم بالذات، فالزيادة التي اعطيت للرواتب في وسط ​العام الدراسي​ الحالي قد تخطت الطاقات الفردية، ما جعل ​الأقساط المدرسية​ الجديدة متعذرة ​التأمين​ عند أكثرية الأهلين، والمدارس في مأزق تجاه المعلمين"، مشدداً على "اننا اجتمعنا مع مسؤولي التعليم الخاص في الصرح البطريركي في ​بكركي​، ورأينا أن الأهل لا يستطيعون القيام وحدهم بكل هذه المسؤوليات، وأكدنا أن التعليم هو أساسا من مسؤولية الدولة فهي تجمع الضرائب في سبيل جميع المواطنين دون استثناء، وقد طالبنا المسؤولين فعلا في الدولة أن تقوم بواجب مساعدة الأهل في تعليم أولادهم كما تفعل الدول الراقية ابتداء من ​فرنسا​ التي نأخذ عنها مجمل تشريعاتنا، فنلنا من المسؤولين وعودا بالقيام بهذا الواجب، واتخذت المدارس الخاصة قرارا لدى اجتماعها في بكركي بأن تؤمن مع الأهلين تغطية السلسلة مع الأهلين من أجل إنصاف المعلمين، وطالبت الدولة بمد يد العون للأهل فتؤمن لهم تغطية الدرجات الست التي صرخوا أنهم لا يستطيعون تأمينها من ذاتهم على الإطلاق".

وختم باقول "اننا اليوم، في هذا العيد الفضيل، عيد الخدمة والتضحية، نناشد المسؤولين جميعا أن يتخذوا القرار الإنقاذي هذا، ويدخلوا مفاعيله ضمن موازنة العام 2018 في ​المجلس النيابي​ ليخرجوا أبناء شعبهم من المأزق الكبير، ويجنبوا البلاد والعباد أزمة قد تطيح، لا سمح الله، مع اهتزاز المدرسة الخاصة، بكل منجزات التعليم في لبنان إلى أجل غير مسمى، فالله نسأل بشفاعة القديس يوسف شفيع الآباء والمربين، أن تحتضن الدولة شعبها كأب صالح ومحب، وأن تكمل المدارس رسالتها ومنها الحكمة العزيزة بكل فروعها، وأن يربو طلابنا في كنفها على محبة لبنان وخدمته وعلى زرع السلام والخير في منطقتنا كافة وهو قابل الصلوات ومستجيب الطلبات، تمجد اسمه وتعالى إلى الأبد".