مع اختلاط حابل التحالفات السياسية بنابل التحالفات الانتخابية، والتناقضات التي طرأت على تموضع الفرقاء السياسيين، حلفاء وخصوماً، بين دائرة وأخرى، اعتقد كثيرون أنّ السياسة بمعناها التقليدي المرتبط بالمواضيع الخلافية، وما تفرزه من اصطفافات، ستغيب بالمُطلق عن الاستحقاق الانتخابي المرتقب، لصالح عناوين أخرى، كالشفافية ومحاربة الفساد إلى ما هنالك.

إلا أنّ مؤشراتٍ أخرى بدأت بالظهور في الأيام الماضية أوحت بالعكس، بدءاً من الكلام المنسوب للأمين العام لـ"​حزب الله​" ​السيد حسن نصرالله​، الذي استحضر "داعش" و"​جبهة النصرة​" إلى ساحة المعركة الانتخابيّة، وصولاً إلى الخطاب المناهض للحزب في أكثر من مكان، والذي يلعب على وتر السلاح والمذهبية، والسجالات التي انبثقت عن الخطابين، وتبدو قابلة للتصاعد أكثر فأكثر في المرحلة المقبلة.

لزوم المعركة

"لن نسمح بأن يمثل حلفاء النصرة وداعش أهالي ​بعلبك​-الهرمل". كانت هذه العبارة المسرّبة من لقاءٍ للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله مع كوادر حزبه كافية لإشعال السجالات في الداخل والخارج، معطوفة على قول الرجل إنّه مستعدٌ للتوجّه شخصياً إلى ​منطقة البقاع​ "إذا رأينا أن هناك وهناً في الإقبال على الانتخابات"، بل إنّه لن يتردد في التجوال في قرى المنطقة ومدنها وأحيائها للسعي إلى إنجاح اللائحة "مهما كانت الأثمان".

وبغضّ النظر عمّا إذا كان كلام السيد نصرالله يندرج ضمن الواقعية السياسية أم البازار الانتخابيّ، فإنّ علامات استفهامٍ كثيرة طُرِحت، فلماذا يرفع الرجل السقف لهذه الدرجة؟ وهل تستحق المعركة الانتخابية مثل هذا الكلام العالي النبرة، والذي يفترض أنّ البلاد تجاوزته منذ معركة تحرير ​جرود عرسال​ الشهيرة؟.

في المبدأ، يمكن القول إنّ السيد نصرالله أراد من خطابه، بالدرجة الأولى، إحداث "صدمة" لدى جمهوره، ولا سيما الجمهور البقاعي، بل ثمّة قناعة أنّ التسريب الذي حصل لمضمون الخطاب لم يكن عفوياً، بل متعمّداً ومقصوداً ليصل إلى المؤيدين والمناصرين ولا يبقى محصوراً في المحازبين، ولا سيما أولئك الذين بدأت تبرز أصداء "تململهم" من الوضع القائم، و"فصلهم" بين تأييدهم للمقاومة وانتخابهم لنوابٍ لا يرون أنّهم يقدّمون فعلاً ما يخدم المنطقة ويساهم في تنميتها وتطويرها، علماً أنّه سبق أن خصّص حيّزاً أساسياً من أحد خطاباته لدحض وجهة النظر هذه بالتحديد، عن طريق دعوة الجميع إلى الحكم على نواب "حزب الله" من خلال الحكم على الحزب وأدائه بشكلٍ عام.

من هنا، يمكن القول إنّ ما هدف إليه السيد نصرالله هو "تحفيز" جمهور الحزب على الاقبال على الانتخابات بكل جدية ومسؤولية، وعدم الاستهانة أو الاستخفاف بها، خصوصاً في دائرة ​بعلبك الهرمل​، التي بات واضحاً أنّ السيد نصرالله يوليها أهمية استثنائية مختلفة عن غيرها، بدليل أنّه بات يشرف شخصياً على تفاصيلها. وليس خافياً على أحد أنّ هذه الدائرة تتسم بحساسيّة خاصة بالنسبة إليه ثبّتها السيد نصرالله في أكثر من مناسبة، سواء في كلمته الأخيرة أو قبلها، ومردّ ذلك القلق من "خرق" يمكن أن تتعرّض له لائحة "الأمل والوفاء" من قبل الخصوم في عقر دارها، ولا سيما أولئك الذين يصنّفهم الحزب في خانة "الحاقدين" على المقاومة، رغم أنّ مثل هذا الخرق أكثر من وارد برأي كثيرين نظراً لطبيعة ​القانون الانتخابي​، ولو حاول "الحزب" منعه من خلال اللعب على مسألة "الحاصل الانتخابي" ورفعه.

هدية مجانية؟

في خانة "لزوم المعركة" إذاً، يمكن إدراج خطاب السيد نصرالله، الذي يرى مؤيّدوه أنّ الردود عليه أتت مضخّمة، باعتبار أنّه لم يخوّن أحداً، ولم يقل إنّ "داعش" و"النصرة" حاضران بشكل مباشر في المعركة، بل تحدّث عن "حلفاء" لهما، وهذا الأمر ليس بجديد، وسبق للحزب أن اتهم الكثير من الفرقاء بدعم هذه الجماعات المتطرّفة، كما أنّه لم يحدّد من هم هؤلاء الحلفاء، لأنّهم معروفون بالنسبة إلى الجمهور، ومن غير الدقيق القول إنّه عمّم، وإنّ ما قاله ينطبق على جميع المرشحين المنافسين للائحة "الأمل والوفاء" من دون استثناء.

قد يكون كلّ ذلك صحيحاً، لكن، وبمعزلٍ عن النوايا التي قد تكون مبرّرة، ثمّة من يرى أنّ استحضار "داعش" و"النصرة" بهذا الشكل إلى الملعب الانتخابيّ لا يبشّر بالخير، بل هو يبدو بمثابة "هدية مجانية" قدّمها "حزب الله" إلى الخصوم، خصوصاً أنّه يحرص منذ بدء الحديث عن الانتخابات على الإيحاء بأنّه أكثر من مرتاح لوضعه، بل يترك الحرية الكاملة لحلفائه لفعل ما يشاؤون، وإذا به يضع هؤلاء الحلفاء في قفص الاتهام مثلهم مثل غيرهم. وحتى لو تمّ تبرير الأمر بأنّه من مستلزمات المعركة، التي يشرّعها الآخرون لأنفسهم ويحرّمونها عليه، فإنّ مجرّد اللجوء إليه يضع مقولة "ارتياح الحزب المسبق" في دائرة التشكيك، كونه يدلّ على حالة قلق تعتري الحزب، مهما صغر أو كبر حجمها، ولو كانت محصورة فقط بالخشية على المقعد الماروني، وإمكانية مصادرته من قبل "​القوات اللبنانية​" على سبيل المثال، مع ما يعنيه ذلك في منطقة كبعلبك.

وأبعد من ذلك، هناك من يرى أنّ من مخاطر لجوء "حزب الله" إلى هذا الخطاب الانتخابي إمكانية أن "يشرّع" الخطاب المضاد، والذي يتّخذ من السلاح شعاراً للمواجهة، بمناسبة أو من دونها، رغم أنّ هذا الخطاب سابقٌ لكلام السيد نصرالله، ولاحقٌ له بطبيعة الحال. ولكن تماماً كما يُتّهَم بعض خصومه بأنّهم يستخدمون هذا الأسلوب للتوظيف الانتخابي ليس إلا، بدليل مساكنتهم مع الحزب في حكومةٍ واحدة، فإنّ الحزب فعل الأمر نفسه مع من وصفهم بحلفاء "داعش" و"النصرة"، الذين يشارك بعضهم على الأقلّ ​الحكومة​ نفسها.

ساحة مفتوحة...

"داعش" و"النصرة" ليسا لاعبين في الانتخابات النيابية، ولن يكونا، تماماً كما سلاح "حزب الله"، الحاضر دوماً في الخطابات الانتخابيّة، والذي لا يبدو من الناحية العملية لاعباً فاعلاً في الاستحقاق، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

قد يُلام السيد نصرالله اليوم على استحضاره لـ"داعش" و"النصرة"، وقد يُلام الخصوم على استحضارهم للسلاح في أدبيّاتهم وبرامجهم، وكلا الجانبين يسعى للعب على غرائز الجمهور، الذي تتحكّم به العواطف قبل كلّ شيء.

وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ الساحة ستكون مفتوحة أمام استحضارات من كلّ الأنواع على مدى الشهرين المقبلين، والمائدة الانتخابيّة ستكون من دون شكّ مليئة بالأطباق التخوينية والشعبوية وما شابهها، وعلى الجميع التيقّظ والتنبّه، لأنّ الآتي قد يكون أعظم...