انها بداية فصل الربيع. هو ​عيد الأم​، عيد مَن مِن رحمها تولد كل الحيوات الجديدة.

كنت في الصف الأول. سألتني المعلمة حينها "كم عمر والدتك". أجبتها 26 عاماً. كانت المرة الأولى التي أُسأل فيها عن عمر أمي. مرّت الأيام وبقي هذا الرقم في ذهني، وبقي الجواب على السؤال عينه "26 عاماً". هي نفسها اليوم التي ناهز عمرها الـ45 عاماً، لا زالت بنظري "بنت الـ26 سنة"، رغم كبرها.

أحاول اختصار صورة امي بمشهد، أو ذكرى، أو حتى بعبارة. ورغم صعوبة ذلك سأختصر لكم ما أرى.

"يا رب الأرض تطّلعلك والسما تنزلّك"، هي عبارتها الشهيرة. ففي كل مرة أرادت أن تدعو لي، كانت هذه هي العبارة المستخدمة. في كل صلاة لها، كنا أنا وأخوتي في مطلع دعائها. لكن أين هي الأم من دعائها؟ ولماذا تعطي وتقدم كل ما تعطيه بسخاء غير معهود؟ من يدعو لها لأجل ما هي بحاجة اليه؟.

المشاهد التي تمر أمامي عند ذكر امي كثيرة. منها ما هو حزين، وبعضها ما يحمل في طياته بسمة وسعادة. تعود بي الذاكرة إلى التاسع من أيلول من العام 2000. هو اليوم الذي شكل منعطفاً في حياتنا العائلية، وكان اليوم الذي فقدنا فيه ركناً من العائلة في حادث سير مروع، أخي مصطفى، الذي كان في عمر الثلاثة أشهر.

باختصار، بعد غيابي عن الوعي لساعات، أول مشهد كان أمامي هو وجه أمي. رغم جراحها، كانت فوق رأسي. ما ان فتحت عينيَّ، حتى بانت الابتسامة على وجهها. أغرتني بـ"عصير الكوكتيل" حينها كي لا أنام، بعد ارشادات من الطبيب بأنه لا يجب أن أنام كي لا أدخل بغيبوبة. رغم أوجاعها، والكسور في كتفها، وفقدانها لابنها مصطفى، كان همها الوحيد ألاّ انام. وهنا يطول السرد عن هذه المرحلة التي تشكل علامة فارقة في وجداني، وفي كل مشهد تبرز أمي بطلته، السند الأول والثاني والأخير.

تمر السنوات ومعها تمر الذكريات. واختزال امي بذكرى او حتى اثنتين يبقى صعباً. ولكن بما أن اليوم هو عيد الأم، خطرت في ذهني ذكرى وفاة والدة أمي. أذكر جيداً ملامح وجه أمي عندما فقدت والدتها. حينها فهمت أكثر من أي وقت مضى، معنى أن يفقد المرء والدته، وأن علاقة الأم بابنها ليست حالة فردية، بل هي غريزة تولد مع الشخص، وتموت معه.

حينما استرجعت هذه الذكريات، ورغم سوداويتها، تيقّنت أن أي شخص لم يكن لينجو من كل ما حصل بحياته، لو لم يكن "الجبل" الذي نتكّئ عليه موجوداً، وتأكدت أن ما أخبرتنا به الأديان صحيحا، فالأم هي وسيلة العبور الى الجنة.

انها الأم، الحضن والملجأ والسند. هي البداية وهي الأصل والفصل. في عيدك أمي... كل عام وانت بخير.