زار الرئيس ​سعد الحريري​ منطقة الشمال هابطاً إليها من السماء، مستقلاً مروحية حربية لنتقله إلى عكار و​طرابلس​، عابراً الأجواء الشمالية بصحبة الوزير القواتي ​ملحم رياشي​، ليفيض على أهالي المنطقة بـ"مواقف وطنية"، ويمنح "الشهادات" فيها، وليحرّض المواطنين على مكوّن رئيسي من مكونات البلد، وشريك له في الحكومة التي يرأسها.

هذه "السيمفونية" اعتاد اللبنانيون سماعها قبل كل استحقاق برلماني، أو تجمُّع شعبي ينوي "​تيار المستقبل​" تنظيمه.

لم يحمل رئيس الحكومة جديداً، والمواقف التي أُطلقت قبيل انتخابات العام 2009، تتكرر اليوم، فيستعرض نفسه أمام الشماليين على أنه "السد المنيع" في وجه أي تدخُّل خارجي أو وصاية خارجية على البلد، وهو من أُجبر على الاستقالة من رئاسة الوزراء في تشرين الثاني الفائت، بضغط خارجي، والأنكى من ذلك أنه أعلنها من الخارج؛ في سابقة لم تشهدها الحياة السياسية اللبنانية.

أهكذا تصان السيادة اللبنانية؟

13 عاماً مضوا على انطلاق "​ثورة الأرز​"، ومازال الحريري يتنكّر لكل فشل يرتكبه أو أزمة يواجهها أو مأزق يقع فيه أو تراجع لشعبيته، فيعود إلى إنشاد معزوفة "التدخُّل السوري في الشؤون اللبنانية"، والبيت القصيد الذي أنشده مؤخراً في الشمال حمل هذه الكلمات: "أحذّر من لوائح الأسد في الانتخابات النيابية".

كلام الحريري هذا يؤشر إلى أن سورية خرجت من أزمتها وتفرّغت بكل أجهزتها للفوز في مقعد نيابي في عكار وآخر في طرابلس!

التناقض الكبير الذي وقع فيه رئيس الحكومة، أنه حسم أمره سابقاً بأن ​الدولة السورية​ ستسقط في غضون أشهر قليلة من تاريخ بدء الحرب العالمية على سورية في العام 2011، وسيعود إلى بيروت من منفاه "الطوعي" عبر ​مطار دمشق الدولي​.. لكنه لم يعد إلى لبنان إلا بعد دخوله في تسوية مع ​حزب الله​؛ الحليف الأبرز لسورية الأسد، وعن طريق ​مطار بيروت​، وهو من قال مراراً: "إن الرئيس السوري بات في حكم المنتهي"، ومعنى ذلك أن الحريري أسقط كل ادعاءاته السابقة، وأثبت أن الأسد مرتاح جداً إلى حد ترك شؤون بلاده، وإعطاء الشؤون اللبنانية حيّزاً كبيراً من وقته، ودخوله في أدق تفاصيل الحياة السياسية في لبنان، من خلال إسهامه في تأليف القوائم الانتخابية، ودائماً وفقاً لما جاء في خطاب الحريري أمام أهالي الشمال.

هذا الخطاب التعبوي لزعيم "التيار الأزرق"، يعيد اللبنانيين عموماً والشماليين خصوصاً، بالذاكرة إلى المرحلة التي سبقت الانتخابات النيابية الفائتة؛ عندما ركّز الحريري وفريقه في حملتهم الانتخابية ضد سورية، وبعد إجراء الانتخابات بأيام قليلة عدة أوفد إلى دمشق النائب ​نهاد المشنوق​ (وزير الداخلية اليوم)، لتعبيد الطريق أمام ذهاب زعيمه الراغب في زيارتها ولقاء الأسد، وكان له ما أراد، فزار سورية والتقى رئيسها، وحل في ضيافته، بعدما اتهم الشهود الزور بأنهم ضللوه في شأن "تورُّط" دمشق في جريمة اغتيال والده.. واليوم، وقبيل انتخابات 2018، هل يعتمد الحريري الخطاب عينه الذي لجأ إليه في العام 2009 قبيل زيارته دمشق، تمهيداً لزيارتها مجدداً، وهو الطامح للمشاركة في إعادة إعمار سورية؟