جاءت تصريحات الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ عن نية واشنطن سحب جنودها من ​سوريا​، تثير علامات استفهام بالجملة: ماذا تخفي الخطوة؟ هل هي نتيجة توافق أميركي، أم خلاف بين الادارة والمؤسسة العميقة؟ هل يتبع الانسحاب مزيدا من الفوضى في ​الشرق الاوسط​؟ هل يتم بالتنسيق بين واشنطن وموسكو؟.

تعددت الاسئلة والتحليلات، لكن الثابت أن الأزمة داخل ​الولايات المتحدة الاميركية​ قائمة بشأن اختلاف الرؤى بين البيت الابيض من جهة، و"المؤسسة العميقة" من جهة ثانية. التباين بين الفريقين ليس بسيطاً. ترامب يعطي الأولوية للاقتصاد، على حساب التمدد الجغرافي، بينما تركّز المؤسسة على الجغرافيا السياسية بإعتبارها المدخل الى النفوذ وتحسين الاستثمارات. لا يرى ترامب ضرورة لصرف الأموال على قواعد عسكرية في حال عدم تأمين موارد خارجية لها. هو يمّيز بين القواعد المنتشرة في الخليج، التي تدفع تكاليفها ​الدول الخليجية​، وبين قواعد تنتشر في سوريا لم يعد لها طائل برأي الرئيس الأميركي. بالمقابل، تعتبر "المؤسسة العميقة" أن وجود القواعد العسكرية الاميركية في أي ساحة، ومنها سوريا، هو ضرورة لإمتداد النفوذ الاميركي وعدم ترك الساحة للروس او للإيرانيين أو الاتراك. يستند رأي المؤسسة الى الصراع الذي يجري ميدانياً وسعي أعداء وخصوم واشنطن الى السيطرة وضرب المصالح الاميركية. تعتقد المؤسسة أن انتشار القواعد يفرض الهيبة، ويجذب حلفاء، وبالتالي يفيد إقتصادياً، وهو ما لم يقتنع به ترامب. فالرئيس الأميركي لا يزال ملتزماً مع موسكو بتنفيذ الأجندة التي نصّ عليها التفاهم بين الفريقين، رغم كل الخلافات الروسية-الأميركية.

في ظل السباق الأميركي الداخلي، لا يبدو أن سحب القواعد سيكون عملاً سهلاً بالنسبة الى البيت الابيض. قد يواجه مطبات، تفرض عليه التراجع التدريجي. خصوصا ان ال​اسرائيل​يين يرون بوجود القواعد الاميركية في سوريا عامل دعم لتل أبيب، وردع للإيرانيين، تحديداً في شرق الفرات.

مجرد استعراض بسيط لحجم المتغيرات على الساحة السورية، يظهر تراجع النفوذ الاميركي، مقابل تمدد الروس والايرانيين والاتراك: في وسط سوريا، تمضي التسويات برعاية موسكو، وتسهيل الاتراك، خصوصا في ​الغوطة الشرقية​ الآن. في شمال سوريا صارت ل​تركيا​ اليد الطولى، دون أن يعني ذلك قدرتها على امساك زمام المبادرة وحدها. بالنسبة للكرد صاروا أقرب الى الروس. في الشرق، يسرح الأميركيون ضمن حدود قواعدهم. في الجنوب، ترقب وانتظار. هل تمضي التسويات نحو درعا؟ أم تحل أزمة الجنوب بالحسم العسكري؟ كل الخيارات مطروحة، لكن تسوية الغوطة الشرقية سرّعت بإمكانية الحل السلمي.

اسرائيل تراقب، وتحاول فرض شروط برفع السقف والتهديدات العسكرية. كل ذلك لا يعني الحرب، فالكفة تميل الى التسويات بضمانة روسية. لم يعد للأميركيين قدرة على التخريب. قد تتأخر المعالجات، لكنها آتية بفعل تبدل موازين القوى على الأرض.

الضغوط على ​روسيا​ دولياً، والحصار الذي تقوم به عواصم غربية، لن يجعل موسكو أضعف، بدليل نتائج الانتخابات الرئاسية الروسية الأخيرة. لكن شد الحبال سيبقى قائماً، يخفف من تداعياته الخلاف داخل البيت الأميركي. الشرق الاوسط سيستمر مساحة للتجاذب، دون أن يؤدي ذلك الى الانفجار.