رغم كلّ ثغراته التي تتكشّف يوماً بعد آخر، يسجّل الكثيرون للقانون الانتخابيّ النسبيّ مع الصوت التفضيليّ إيجابيّة أساسيّة وجوهريّة ربما تكون يتيمة، تتلخّص بأنّه أنهى عملياً كلّ حديثٍ عن الاصطفافات السياسية السابقة، وتحديداً عمّا كان يُعرَف بقوى الثامن والرابع عشر من آذار، بدليل خوض مكوّنات هذه القوى ​الانتخابات​ في وجه بعضها البعض، في معظم الدوائر الانتخابيّة.

إلا أنّ "الصورة الجامعة" التي انتشرت كالنار في الهشيم قبل يومين، وتجمع كلاً من رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب ​وليد جنبلاط​ ورئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، برعايةٍ ومباركةٍ سعوديّة قلّ نظيرها، أعادت التساؤلات عمّا إذا كانت هناك مساعٍ لإعادة إحياء التحالف "الآذاريّ"، ولو بعد الانتخابات. فهل مثل هذا السيناريو لا يزال وارداً؟ وأيّ عقباتٍ تعترضه إن وُجِدت؟.

رسالة واضحة

منذ عودة رئيس الحكومة سعد الحريري من باريس، بعد زيارته الشهيرة إلى المملكة العربية ​السعودية​، التي أعلن منها استقالته من الحكومة، قبل أن يتراجع عنها في بيروت، لم يسجّل أيّ لقاءٍ بينه وبين رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، رغم كلّ الاتصالات "الماراثونية" التي دارت بين الجانبين، والتحرّكات المكوكية لـ"الوسطاء"، ولا سيما وزيري الإعلام ملحم رياشي والثقافة غطاس خوري، ورغم كلّ ما حُكي عن "تمنّيات" خارجية بحصول اللقاء، لم تستطع أن تترجم انتخابياً سوى بتحالف خجولٍ ومحدودٍ اقتصر على دائرتين، وضعه البعض في خانة "رفع العتب"، ليس إلا.

وإذا كانت العلاقة بين الحريري وجنبلاط سلكت مساراً أفضل في مرحلة ما بعد عودة رئيس الحكومة، علماً أنّ جنبلاط لم يكن يغرّد في نفس سرب جعجع خلال غياب الحريري، الأمر الذي ترجم تحالفاً انتخابياً واسعاً في معظم الدوائر المشتركة بين الجانبين، فإنّ ما حصل بينهما في الأيام الماضية، على خلفية سحب اسم النائب أنطوان سعد من لائحة البقاع الغربي في اللحظة الأخيرة، أوحى بـ"قطيعة" قد لا تُحمَد عقباها، خصوصاً بعدما صعّد "البيك" بشكلٍ لم يسبق لم مثيل في وجه "الشيخ"، متّهماً إياه تارةً بـ"غدره" وطوراً بـ"استهدافه"، وبين الاثنين بـ"الخضوع" لوزير الخارجية جبران باسيل الذي يريد "محاصرته".

أوحت هذه الأجواء السلبية بأنّ "الكيمياء" بين أطراف "الثلاثي" الذي قاد يوماً "​ثورة الأرز​"، والذي ربما لا يزال يبكي على أطلالها حتى اليوم، لم تعد متوافرة، وأنّ جمعهم بات أمراً صعب المنال، إن لم يكن مستحيلاً، في ظلّ الأجواء الحالية، أقلّه قبل ​الانتخابات النيابية​ المقبلة، التي يبقى كلّ ما بعدها مرهوناً بنتائجها، وفق قاعدة لكلّ حادثٍ حديث. إلا أنّ السعودية فعلتها، فكانت الخلوة على هامش الاحتفال بإطلاق اسم الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز على جادة على الواجهة البحرية لبيروت، بوساطة مباشرة من الموفد السعودي نزار العلولا.

ولعلّ الرسالة الواضحة التي حملتها مهمّة العلولا لم تقتصر على إعلان العودة السعودية إلى الساحة اللبنانية قبيل الانتخابات النيابية بعد فترة من التخلي عن لبنان، إن جاز التعبير، بل حملت بين طيّاتها كذلك دعوة لا لبس فيها إلى الثلاثة لإعادة إحياء العلاقة المشتركة فيما بينهم ولو بالحدّ الأدنى، وفق قاعدة تنسيق المواقف، خصوصاً بعدما عاد كلٌ من الأطراف الثلاثة، وتحديداً الحريري وجعجع، إلى اعتماد خطابٍ متقارب سياسياً، بما يرضي توجّهات المملكة بشكلٍ أو بآخر.

الواقعيّة أولاً

ليست المرّة الأولى التي تُتّهَم فيها السعودية بالسعي لإعادة إحياء تحالف "​14 آذار​"، فقد تسرّب كلامٌ من هذا القبيل قبل أسابيع، وتحديداً عشية زيارة رئيس الحكومة إلى المملكة، والتي قيل إنّه قد يعود منها بـ"انقلابٍ" جديد يطيح فيه بتحالفه مع "التيار الوطني الحر" لصالح التحالف مع "القوات اللبنانية"، إلا أنّ ذلك لم يحصل، وبقيت التحالفات "على القطعة" هي السائدة، فتحالف الحريري مع "القوات" في مواجهة "التيار" في مكان، ومع "التيار" في مواجهة "القوات" في مكان، بل في مواجهة الاثنين في مكان.

إلا أنّ الحديث عن الرغبة السعودية بإحياء العلاقة بين من يمكن تصنيفهم في خانة "أصدقائها" في لبنان يكتسب هذه المرة أهمية مضاعفة، انطلاقاً من الخطوة الأولى التي رعتها بنفسها من خلال الخلوة التي جمعتهم، ما أبعد الكلام في هذا السياق من خانة "الإشاعات" أو "الحكم على النوايا"، ليضعه في خانة "الفعل" عملياً، ما أوحى بوجود مساعٍ جدية في هذا الإطار، بيد أنّها مساعٍ تختلف أيضاً عن سابقاتها من حيث "الواقعيّة" التي تتّسم بها.

ولعلّ أساس هذه "الواقعية" أنّ الخلوة، وإن حصلت قبل الانتخابات، لا يمكن أن تكون لها أبعاد انتخابية، على اعتبار أنّ ما كُتِب قد كُتِب، وأنّ التحالفات التي سيُخاض على أساسها الاستحقاق باتت نهائيّة ولم يعد بالإمكان الرجوع عنها، فضلاً عن اقتناع كلّ طرف بأنّها أفضل الممكن لتحقيق نتائج جيّدة في الانتخابات، أو بالحدّ الأدنى، لتقليص الخسائر المتوقعة بموجب القانون الانتخابي الجديد. يُضاف إلى ذلك أنّ السعودية تدرك أنّ الحريري مثلاً ليس في وارد "الانقلاب" على تحالفه مع "التيار الوطني الحر"، وثمّة من يقول إنّه أقنع القيادة بأهميته، ليس فقط لناحية تحقيقه تباعداً يُبنى عليه بين الأخير وحليفه "​حزب الله​" فقط، ولكن أيضاً للتكامل مع "العهد القوي"، وبالتالي "الشراكة الكاملة"، خصوصاً في ضوء "الضمانات" التي حصل عليها الحريري للبقاء في رئاسة الحكومة بعد الانتخابات.

لكن خلف هذه الواقعيّة، يبقى "الطموح" بإعادة إحياء التحالف، ولو بالتي هي أحسن، أكثر من مشروع، وهو أمرٌ سيُنظَر فيه بعد الانتخابات النيابية، بما يحقّق مصالح أطراف التحالف، كلٌ على حدة، وكمجموعة، علماً أنّ هناك من رصد إشاراتٍ في هذا السياق خلال الأيام الماضية، أرسلها الحريري بشكلٍ واضح، والتقطتها "الرادارات السياسية". وإذا كانت أكثر هذه الإشارات وضوحاً تتمثّل بحديث "الشيخ سعد" عن "علاقة ممتازة" مع "الحكيم"، وعن أنّه عايده في عيد الفصح وسيلتقيه قريباً، فإنّ رسالة لا تقلّ أهمية صدرت في أحد مهرجانات "المستقبل" الانتخابية حين برّر الحوار مع "حزب الله"، متسائلاً عمّا إذا كان مطلوباً منه أن يفتح حواراً مع "الحكيم" مثلاً، الذي يتفق معه في الرؤى الاستراتيجية.

أيّ تحالف؟!

شرّعت السعودية إذاً الباب أمام إعادة إحياء تحالف "14 آذار"، بالأفعال الملموسة وليس بالكلام. جمعت قيادات هذا التحالف، باستثناء "الكتائب" المتمايز، لتدعوهم بشكلٍ مبطن إلى إكمال المهمّة بأنفسهم، لحفظ حدّ أدنى من التنسيق، مهمّة يقول كثيرون إنّها قد تجد طريقها إلى التنفيذ في مرحلةٍ قريبة، وتحديداً بعد الانتخابات النيابية، من دون أن يعني ذلك العودة إلى الاصطفافات السابقة بالمعنى الحرفي أو التقليدي.

لكن، وبغضّ النظر عن المنحى الذي ستذهب إليه الأمور، يبقى السؤال الأكبر، أيّ تحالفٍ يمكن أن يتبلور من جديد بين "حلفاء" لم يتحوّلوا إلى "خصوم" فحسب خلال أسابيع قليلة، ولكن عجزوا عن ترتيب مجرّد لقاءٍ لتسوية خلافاتهم داخلياً، من تلقاء أنفسهم، ما اضطر "الوصيّ الخارجيّ"، إن جاز التعبير، للتدخّل ووضع الأمور في نصابها مجدّداً؟.