في الأسابيع القليلة الماضية، بدأت العلاقات ال​لبنان​ية-الخليجية تستعيد عافيتها شيئاً فشيئاً، بعد أشهر من المدّ والجزر، بدأت عملياً مع استقالة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ من المملكة العربية ​السعودية​، إلا أنّ جذورها تعود سنتين إلى الوراء، حين أوقفت المملكة العربية السعودية هبة الأربعة مليارات دولار التي كانت قدمتها للجيش والقوى الأمنية اللبنانية، محذرة رعاياها من السفر إلى بيروت، وواكبتها في ذلك دول خليجية عدّة.

وإذا كان هذا المسار بدأ بالتغيّر مؤخراً، وهو ما توّج في الاحتفال بافتتاح جادة باسم الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز في وسط بيروت، وصولاً إلى المشاركة العربية والخليجية في مؤتمرات دعم لبنان، ولا سيما مؤتمر "سيدر" الذي عقد في العاصمة الفرنسية باريس، ودفع البعض إلى حدّ "التفاؤل" بحزمة قرارات خليجية جديدة، ترفع "حظر السفر" المعمول به، فإنّ تطورات المنطقة تنذر بـ "تحدٍ جديد" يواجهه لبنان، قد "يطيح" بكلّ ما تحقّق، إذا لم يعرف كيف يديره، خصوصاً أنّه يتزامن مع قمّة عربيّةٍ ستحتضنها السعودية تحديداً...

التاريخ يكرّر نفسه؟

حين صدرت القرارات الخليجية بحق لبنان، أو ما سُمّيت بـ"المراجعة الشاملة للعلاقات مع لبنان"، كان السبب المُعلَن لذلك يتمثّل في "المواقف اللبنانية التي لا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين". أما المقصود بهذه المواقف، فلم يكن حصراً "​حزب الله​"، الذي صنّفته ​دول مجلس التعاون​ الخليجي "منظمة إرهابية"، بقدر ما كان "تماهي" الدولة اللبنانية معه بشكلٍ أو بآخر، من خلال بدعة "النأي بالنفس"، التي تمتلك بنظر الكثيرين "براءة اختراع" لبنانية. ولعلّ المفارقة أنّ المشكلة مع لبنان بدأت عملياً في اجتماع لوزراء الخارجية العرب في ​الجامعة العربية​، بعد "تحفّظ" وزير الخارجية جبران باسيل على قرار بإدانة تدخل ​إيران​ في الشؤون الداخلية العربية، في عزّ الصراع معها بعد الهجوم على السفارة السعودية في إيران، علماً أنّ باسيل أكد يومها إدانة لبنان للهجوم بحدّ ذاته.

وعلى الرغم من أنّ الظروف تغيّرت برمّتها اليوم، فإنّ "التوقيت" الذي جعل القمة العربية تتزامن مع "سخونة" لم تعشها المنطقة منذ أشهر، يجعل التخوّف من تكرار سيناريو 2016 أكثر من مشروع، سواء حصلت "ضربة" ضد ​سوريا​ قبلها، أم بقيت في إطار التكهّنات. ويكاد السجال الذي اندلع في الداخل حول مبدأ "النأي بالنفس" للمرّة الأولى منذ "التسوية" التي أفضت إلى تراجع رئيس الحكومة عن استقالته في تشرين الثاني الماضي، يعطي نموذجاً عمّا ينتظر لبنان على هذا الصعيد، في ظلّ الانقسام الداخلي بين معسكرين، معسكرٌ سارع لإدانة أيّ ضربة لسوريا بوصفها "عدواناً على دولة عربية"، وفي مثل هذه المواضيع لا حياد ولا نأي بالنفس، وفريقٌ آخر اختصر رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​ موقفه بالقول إنّ "النأي بالنفس يعني النأي بالنفس، ونقطة على السطر".

وإذا كان صحيحاً أنّ لبنان لن يذهب إلى القمّة العربية بوفدين وموقفين كما فعل سابقاً، حين كان إميل لحود رئيساً للجمهورية وفؤاد السنيورة رئيساً للحكومة، على اعتبار أنّ "الشراكة" بين ​الرئيس ميشال عون​ والحريري في أفضل أحوالها، فإنّ الصحيح أنّ "التحدي" ليس سهلاً، فماذا لو قرّرت القمّة العربية دعم الضربة على سوريا، علماً أنّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قال إنّ بلاده مستعدة للمساعدة إذا اقتضى الأمر، ولو أتى تصريحه "عرضياً" بعد زيارته الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باريس؟ وماذا لو لم يوافق العرب على إدانة استخدام الأجواء اللبنانية في أيّ ضربة على سوريا، كما حصل في الهجوم على قاعدة التيفور العسكرية قبل أيام؟ وماذا سيفعل لبنان إزاء الإدانة المتوقّعة من القمّة للهجوم الكيميائي على دوما في غوطة دمشق، وتحميل النظام السوري مسؤوليتها؟ هل يوافق على هذه النقطة، ولو كان يتجنّب توجيه الاتهامات بانتظار التحقيقات؟ وكيف سيتلقّف العرب في المقابل الموقف اللبناني "المتحفّظ"؟!

لا تصعيد ولا صدام

عموماً، وعلى الرغم من أنّ كلّ هذه التساؤلات، وما تحمله من توجس وخشية، مشروعة، ثمّة من يقول بأنّها تحمل بين طيّاتها مبالغات، على اعتبار أنّ العودة إلى الوراء في العلاقات اللبنانية-الخليجية غير مطروحة اليوم، لا من الجانب اللبناني ولا من الجانب الخليجي، وأنّ الصفحة الجديدة التي فُتِحت على خط العلاقات لن تقفل اليوم، لا على خلفية التطورات السورية ولا غيرها، خصوصاً عشيّة الانتخابات النيابية التي يترقبها لبنان، والتي يقال إنّها قد تعيد الفرز السياسي بشكلٍ واسع، من دون أن تؤثر على الصورة اللبنانية الشاملة.

هكذا، يذهب لبنان إلى القمّة العربيّة من دون أيّ نيّة بالصدام مع أحد، أياً كانت الأسباب. هو يعرف أنّ القضايا المطروحة على القمّة، من خارج جدول أعمالها، نظراً للتطورات المرتبطة بسوريا، والتي طرأت في الأيام الأخيرة فقط، تحمل من الحساسية والخطورة ما تحمل، ولكنّه يعلم أيضاً أنّ المطلوب تمرير القمة بالتي هي أحسن، من دون تصعيد. ولذلك، فإنّ لبنان سيلتزم بمواقفه السابقة في المحافل العربية والدولية، وسيطبّق السياسة التي اعتمدها في العام الماضي، تماماً كما فعل في اجتماع وزراء الخارجية العرب التحضيري للقمة أمس. هو لن يخرج على "الاجماع العربي" متى توافر، ولكنّه سيلتزم النأي بالنفس، في المواضيع المتصلة بلبنان بشكل مباشر، وتحديداً بما يتعلق باتهام "حزب الله" بـ"الإرهاب"، وهو من "الثوابت" في السياسة الخارجية اللبنانية، نظراً لانعكاساته المحتملة على الداخل اللبناني.

في المقابل، فإنّ الأكيد أيضاً أنّ الدول الخليجية لن تتعامل مع لبنان، على طريقة من ينتظر الآخر "على المفرق"، ليس فقط لأنّ ظروف 2018 تختلف عن ظروف 2016 من كلّ النواحي، ولكن قبل ذلك، لأنّها تريد إعطاء العلاقات فرصتها اليوم. ولعلّ ما يعزّز هذه النظرية وجود قناعة راسخة بأنّ السعودية باشرت خطوات العودة التدريجية والواقعية إلى لبنان، بعد أشهر من التخلي عنه، وهذا الأمر ما كان ليحصل لو لم تدرك أهمية الحفاظ على حضورها وحيثيتها في الساحة اللبنانية، وهي عادت لاحتضان رئيس الحكومة سعد الحريري بعد أشهر من "الجفاء"، إن جاز التعبير، من دون إقفال الباب على سائر الحلفاء والأصدقاء، والقوى السياسية الفاعلة الأخرى خصوصاً على الساحة السنية، في تكتيكٍ يُعتقَد أنّها ستعزّزه أكثر بعد الانتخابات.

هامش بسيط

في المبدأ، يمكن القول إنّ لبنان يواجه تحدياً مرتبطاً بالقمة العربية والضربة الأميركية المتوقعة لسوريا والموقف منها، ومبدأ النأي بالنفس، واستثناءاته وتأويلاته، وهو ما بدأ يظهر من خلال عودة السجالات الداخلية المرتبطة بوضع المنطقة، بعد فترة من السكون والهدوء.

ولكن عملياً، يمكن القول إنّ القمة لن تكون مسرحاً لعودة "الصدام" على خط العلاقات اللبنانية – الخليجية عموماً، والعلاقات اللبنانية – السعودية خصوصاً، على اعتبار أنّ جناحي هذه العلاقة متمسّكان بها في الوقت الحاضر، بعد تجاوز إشكالات الماضي، وعدم الرغبة باستحضارها، مع إضافة إشكالات جديدة إليها.

وبين ما هو مبدئي وما هو عمليّ، يبقى هامشٌ بسيط مرتبط بالتطورات غير المحسوبة، تطوراتٌ لا شكّ أنّها ستمثّل الامتحان الحقيقي للبنان والخليج، على أن تحدّد طريقة إدارتها الوجهة المقبلة للعلاقات...