قد يعتقد البعض أن الآداء الأميركي في ​سوريا​ يعتمد على خطة بعيدة المدى، وان ما يبدو تخبطا في المرحلة الراهنة، ليس الا مجموعة خطوات مدروسة ستكون أوضح لو نظرنا الى المشهد بكليّته بعد أشهر أو سنوات. لكن الواقع يختلف تماما عن هكذا تفسيرات وتبريرات، بعدما أظهرت الادارتين الأميركيتين، سواء ادارة الرئيس السابق ​باراك أوباما​ أو الرئيس الحالي ​دونالد ترامب​، عشوائية غير مسبوقة في التعامل مع الملفات الخارجية، وبخاصة مع ملف بحجم الملف السوري ما انعكس تمديدا للأزمة والقتال الداخلي، كما تمددا لها الى الدول المحيطة وصولا ل​أوروبا​، والأهمّ تقدما لأخصام واشنطن ان كان في الميدان او في مسار الحل السياسي.

ولعل أبرز مؤشّرين يؤكدان ان ما يحصل هو "تخبط أميركي مريب" وليس "خططا مدروسة" هي المواقف المتلاحقة لترامب، الذي في وقت أعلن فيه عن انسحاب وشيك من سوريا عاد ليتراجع عن الموضوع لاعتبارات لا تزال حتى الساعة غير مفهومة، وان كان قد تم ربطها بمحاولات أميركية للضغط على ​دول الخليج​ لزيادة مساهماتها المالية بالملف السوري. كما أن الضربة العسكرية التي استهدفت مواقع محدّدة في الداخل السوري بعد اتهام النظام باستخدام ​السلاح الكيميائي​ في دوما، والتي أتت نتائجها عكسيّة فأضرت ب​المعارضة السورية​ ورفعت أسهم النظام خاصة مع تأكيد واشنطن مباشرة ان هدفها لم ولن يكون اسقاط الرئيس السوري ​بشار الأسد​، دليل آخر ملموس على "ضبابية الموقف الأميركي والانقسامات الحاصلة داخل الادارة في واشنطن حول كيفيّة وجوب مقاربة الملف السوري".

وقد جاء الاعلان مؤخرا عن امكانية ارسال قوات عربيّة الى سوريا لتحلّ مكان القوات الأميركيّة، ليزيد المشهد تعقيدا كما يطرح أكثر من علامة استفهام حول حقيقة نيّة واشنطن الانسحاب من المنطقة التي يسيطر عليها حلفاؤها ​الأكراد​، وتضم النسبة الأكبر من آبار النفط والغاز لتسلّمها الى حلفائها العرب، علما أنّ مجرد ارسال قوات عربية الى سوريا من شأنه اعادة تسعير الصراع العسكري ويهدد باشتعال المنطقة ككل.

وتعتبر مصادر مراقبة عن كثب للحراك الأميركي في سوريا أنّه ورغم مرور اشهر على انتهاء الحرب على ​تنظيم داعش​ في سوريا و​العراق​، لا تزال الرؤية الأميركية للمرحلة المقبلة غير واضحة، "فإذا كان الهدف المقبل هو احتواء القوات الايرانية وتلك التابعة أو المتحالفة معها، باعتبار ان هذا ما يردده المسؤولون الاميركيون باستمرار، فلا مؤشرات توحي بقدرة واشنطن على القيام بذلك بعد فشلها بمنع سيطرة النظام وحلفائه على المعابر والطرق الرئيسية التي باتت تربط برا طهران ببيروت". وترى المصادر انّه "مقابل وضوح الرؤية والأهداف الروسية والايرانية في سوريا، ونجاح الطرفين حتى الساعة بتحقيق الجزء الأكبر من هذه الأهداف، تغيب السياسة الأميركية الثابتة والمنسقة، بعدما باتت أولوية ترامب تحقيق المكاسب الاقتصادية والمالية على حساب هيبة أميركا الدبلوماسية".

وقد اشارت دراسة أعدّها مركز "جسور" المقرب من المعارضة السورية الى ان "استهداف مدينة دوما بالأسلحة الكيميائية شكّل فرصة ذهبية بالنسبة إلى الرئيس ترامب، الذي يواجه تحقيقاً يُضيّق عليه الخناق حول تأثير روسي محتمل على حملته الانتخابية، باعتبار أن الضربات الأميركية التي نُفذت على سوريا جاءت بعد أيام من قيام جهاز الأمن الفيدرالي باقتحام مكتب محامي ترامب نفسه ومصادرة ملفاته، بما ساعد على نقل النقاش السياسي في ​الولايات المتحدة​ موقّتاً إلى مربع الأزمة في سوريا والعلاقة مع ​روسيا​، وتصوير ترامب كمواجه لموسكو ومشاريعها".

ولعل الحلقة المفرغة التي يدور فيها المبعوث الدولي ​ستيفان دي ميستورا​ في مجال اعادة تفعيل العمليّة السياسيّة بعد تعطل مسار جنيف واستبداله بمسار آستانة، أكبر مؤشر على فشل واشنطن باستلام دفة المركب السوري التي يتولاها حاليا الثلاثي الرؤساء: الروسي ​فلاديمير بوتين​، الايرني ​حسن روحاني​ والتركي ​رجب طيب أردوغان​، وان كانت أظهرت من خلال الضربات العسكرية الأخيرة التي وجهّتها عن جهوزية لقلب الطاولة على رأسها ورأس الجميع في أيّ لحظة وبالتحديد في حال وجدت أن مصالحها مهددة!.