لا يجب الاستخفاف بالزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي ​ايمانويل ماكرون​ الى ​الولايات المتحدة​، ولا حتى اعتبارها عادية كغيرها من الزيارات التي يقوم بها رؤساء آخرون. فمن حيث الشكل، اتت الزيارة بشكل سريع ولكنها حملت معها اشارات دلّت على مدى الود المتبادل بينه والرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​، ما يعني ان العلاقة الشخصية بينهما يمكن ​البناء​ عليها لانجاح بعض المواضيع والملفات الحيوية، ليس فقط في ​اوروبا​ بل في العالم.

اما من حيث المضمون، فكان لافتاً نوعية الملفات التي حملها معه ماكرون من جهة، وتوجهه الى ​مجلس الشيوخ الاميركي​ في كلمة من جهة ثانية. ملفان شكّلا اولوية بالنسبة الى الرئيس الفرنسي وهما الاتفاق ال​ايران​ي النووي والازمة السورية. وفي حين ان النظرة الى الملف الثاني كانت تعتمد على مقاربة واضحة تقوم على مبدأ الاستفادة قدر الامكان من المعطيات والتطورات، والدور الذي يجب ان يُحفظ لكل دولة وفق نسب معيّنة بطبيعة الحال، بدا الانقسام واضحاً في النظرة الى ​الاتفاق النووي​ مع ايران.

وادرك ماكرون قبل سفره الى ​واشنطن​، ان مهمته في هذا المجال ليست اقناع ترامب بعدم المس بالاتفاق، لان هذا القطار قد غادر منذ زمن، واوضح الرئيس الاميركي من خلال التعيينات الاخيرة التي قام بها على مستوى وزير الخارجية ومستشار الامن القومي، ان ليس هناك من نافذة مفتوحة للتفاوض على التزامه بالاتفاق. وبما ان ماكرون مقتنع تماماً، كما الاوروبيين، بأهمية الاتفاق ومنافعه على اكثر من صعيد، كان البديل محاولة اقناع نظيره الاميركي بعدم الامعان في استفزاز ايران او التصعيد معها.

هنا، بدأت الامور تتبلور شيئاً فشيئا، فقد اقترب ماكرون من ايران التي لا ترتاح اليه في مواقفه من بعض الملفات ومنها دورها في ​سوريا​، وقال كلاماً في مجلس الشيوخ وفي ​البيت الابيض​ يمكن اعتباره بمثابة "بادرة حسن نية" منه تجاه ​طهران​. وارفق ذلك بخطوة جس نبض حول امكان تعديل الاتفاق ليتلاءم اكثر مع اوروبا بعد الخروج الاميركي، وحرص الرئيس الفرنسي على ارسال رسائل مفادها انه لا يتكلم باسم بلاده فقط، بل باسم اوروبا متسلّحاً بالمواقف الايجابية الصادرة عن ​الوكالة الدولية للطاقة الذرية​ التي تؤكد دائماً التزام ايران بمضمون الاتفاق وعدم حيادها عنه، وبالتالي انتفاء اي خطر بقدرتها على انتاج اسلحة نووية.

وهنا تبدو المهمة صعبة، فالتفاهم على اتفاق جديد ليس بالامر السهل، خصوصاً وان اوروبا تراه مرضياً لها ولايران على حد سواء، والعودة الى طاولة التفاوض ليس بالامر اليسير وسيكون من الصعب جداً اقناع ايران ان ​كوريا الشمالية​ التي هدّدت وتوعدت وقامت بتجارب نووية، باتت "صالحة" فيما يتوجب على طهران تقديم شهادة "حسن سلوك" متجددة ارضاء لترامب. وعليه، فإن ما مهّد له ماكرون من امكان التفاهم على اتفاق جديد، قد لا يكون هو الاساس، بل وسيلة لافهام الايرانيين ان انسحاب ​اميركا​ من الاتفاق لن يكون نهايته، وان التركيز سيتم على حصر مفاعيل الانسحاب وتطويقها، بما يشابه تقريباً انسحاب واشنطن من "​باريس​" للمناخ، بحيث يمكن في وقت لاحق ان تعود اليه مجدداً، وهو ما قد يحصل ايضاً في موضوع الاتفاق النووي.

لعب ماكرون "الخرطوشة الاخيرة" لانقاذ الاتفاق النووي، وهو سيعمد الى التشديد على وجوب عدم تفاقم الوضع من قبل الاميركيين، وافهام الايرانيين ان اميركا ولو كانت رأس الحربة في الوصول سابقاً الى الاتفاق، الا ان العالم لا يزال يدعم ما يقومون به في الشقّ النووي، وانه سيتم تعويضهم عن الغياب الاميركي بليونة اوروبية تجاههم، ولو ان الاختلاف في الرأي حول العديد من الملفات سيبقى قائماً.