مرّت ​الانتخابات النيابية​ الأولى منذ العام 2009 على خير. لم تعطّلها "ظروف قاهرة" حرمت اللبنانيين من ممارسة حقّهم الطبيعي في الاقتراع على مدى تسع سنوات، ولا "هواجس" طبقة سياسيّة تخشى "استفتاء" الشعب.

ورغم كلّ ما تمّ الترويج له عن صعوبة "التكهّن" بالنتائج نظراً لتعقيدات ال​قانون الانتخاب​يّ الجديد، لم تحمل هذه النتائج أيّ "مفاجآت" تُذكَر. عزّز "​حزب الله​" و"​حركة أمل​" حضورهما. وسّع "​التيار الوطني الحر​" انتشاره، وكذلك فعلت "​القوات اللبنانية​". تراجع "​تيار المستقبل​"، ولم يعد يمتلك "امتياز" الكتلة الأكبر، وتقلّص حجم "​الكتائب​". خرق ​المجتمع المدني​ في ​بيروت​ دون غيرها، بعدما انقلب "تشتّته" ضدّه.

من المبالغة الحديث عن "مفاجآت" في ظلّ كلّ هذه الوقائع، لأنّها كلّها أتت مطابقة للتوقعات، بعيداً عن "مبالغات" البعض "المضخّمة"، التي استوجبتها ​الحملات الانتخابية​. أما "المفاجأة" الحقيقية والوحيدة، فتمثّلت في تراجع نسبة الاقتراع، نسبة لم تصل إلى عتبة الخمسين في المئة، متراجعة عمّا كانت عليه في العام 2009، من دون أن تنفع كلّ "نداءات" اللحظة الأخيرة في رفعها...

الكلّ ربح!

خلال الساعات الماضية، لم يبقَ فريقٌ في لبنان إلا و"احتفل" بالنتيجة التي حقّقها في الانتخابات، باستثناء بعض الشخصيات التي خاضت معركتها وحيدةً، فاختارت الانكفاء والابتعاد عن الصورة تجنّباً لـ"شماتة" البعض. على الطريقة اللبنانية، تكرّرت عبارة "الانتصار" على جميع الألسنة، وكلٌ وجد سبباً لهذا التوصيف. حتى من تراجع حضورهم في الندوة البرلمانية لم يتأخّروا في الالتحاق بركب "المحتفلين"، والتعبير عن "رضاهم" على النتيجة.

باختصار، يمكن القول إنّ جميع الفرقاء خرجوا رابحين من الانتخابات، رغم أنّ ذلك كان متوقّعاً منذ لحظة إقرار القانون، الذي لم يعد خافياً على أحد أنّ مكوّنات السلطة، رغم كلّ

اختلافاتها، فصّلته على قياسها. وإذا كان مسلّماً به منذ أشهر أنّ ثنائي "حزب الله" و"أمل" سيكون "الرابح الأكبر" من هذه الانتخابات، فإنّ حلفاءه وخصومه لم يتأخروا في العثور على "الانتصار" الذي يستحقّ "الاحتفال". ولعلّ كسر "القوات" مثلاً لاحتكار "الثنائي" لجميع مقاعد بعلبك-الهرمل، سببٌ كافٍ لاحتفالها، إلى جانب توسّع حجم كتلتها النيابية، تماماً كما فعل "التيار" الذي تحوّل فوز رئيسه الوزير ​جبران باسيل​ بمقعد ​البترون​ إلى عنوان للاحتفال، تحت عنوان "تصفية الحساب"، في غمزٍ من قناة النائب ​بطرس حرب​، فضلاً عن خرقه في بعض المناطق التي كانت عصيّة عليه سابقاً، كالعاصمة بيروت على سبيل المثال لا الحصر.

حتى المجتمع المدني وجد "انتصاره" في بيروت الأولى، من خلال الخرق-الإنجاز الذي نجح في تحقيقه. ورغم أنّ هذا "الخرق" لم يتوسّع إلى مناطق أخرى، في ظلّ خوضه الانتخابات في معظم المناطق اللبنانية، إلا أنّه، على "محدوديّته"، بدا خطوةً إلى الأمام بالنسبة إليه، يمكن البناء عليها مستقبلاً. ولعلّ مكوّنات المجتمع المدني مدعوّة اليوم قبل غيرها إلى أخذ العِبَر من تجربتها الانتخابيّة، لأنّ خرق بيروت دليلٌ واضحٌ على أنّها قادرة على فعل شيء، إذا أظهرت الحدّ الأدنى من التماسك المطلوب، بعيداً عن التشتّت والخلافات، التي تجعلها نسخة طبق الأصل عن أحزاب تقليديّة، تبقى مفضّلة بالنسبة لكثيرين على اعتبار أنّها "مجرَّبة"، ولو قالت القاعدة إنّ "من جرّب مجرَّباً كان عقله مخرَّباً".

"الصدمة الكبرى"

وبانتظار أن تستكمل القوى السياسية قراءتها للنتائج وتحليلها لحجم "الانتصار" الذي حقّقته وآليات "الترويج" له بالطريقة الأمثل، يبقى أنّ عليها جميعها أن تتوقف عند "المفاجأة" التي حملتها الانتخابات، وقد يكون تعبير "الصدمة" أدقّ في هذا السياق، تلك التي مثلتها نسبة الاقتراع التي تراجعت عن العام 2009 بدل أن تتقدّم، رغم كلّ الضجّة التي استبقت الانتخابات.

ولعلّ ما يزيد من حجم "الصدمة" أنّ لبنان قد يكون البلد الوحيد في العالم الذي لم يرفع انتقاله من النظام الأكثري إلى النسبي مستوى الاقبال على الاقتراع. ولذلك، قد يكون مفيداً أن تنكبّ القوى السياسية مجتمعةً على دراسة الأسباب والعوامل التي دفعت اللبنانيين إلى العزوف عن المشاركة، رغم النداءات المتكرّرة، والتي دخل على خطها رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ نفسه بعدما أعلن صراحةً أنه "تفاجأ" بالنسبة المتدنية على المشاركة في الاقتراع، ورغم أنّ آخر انتخابات تعود تسع سنواتٍ إلى الخلف، ما كان يفترض أن "يولّد" حماسة لدى اللبنانيين للمشاركة، رفضاً لمصادرة قرارهم باختيار ممثليهم بالحدّ الأدنى.

ولا شكّ أنّ القانون الانتخابيّ يأتي في صدارة الأسباب التي أدّت إلى هذا الواقع، إذ انّ الكثير من اللبنانيين لم يكونوا راضين عنه، بمن فيهم الدعاة إلى تطبيق النظام النسبي، بعدما وجدوا أنّ القانون "نسبيّ" في الظاهر، "أكثريّ" في العمق، وأنّ صوتهم لن يُحدِث الفرق المرجوّ، رغم كلّ الادعاءات بخلاف ذلك. وإذا كان الصوت التفضيليّ الواحد زاد من "نقمة" اللبنانيين على القانون، فإنّ الظروف السياسية لا تقلّ شأناً على هذا الصعيد، خصوصاً لجهة التحالفات "الملزمة" التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وجعلت "غير المحازبين" يعدّون للعشرة قبل إعطاء صوتهم لأيّ حزبٍ في اليمين، بما قد يفيد حزباً في اليسار، من حيث يدرون أو لا يدرون، نظراً لتحالف الجانبين العصيّ على الفهم.

أبعد من ذلك، يمكن القول إنّ مقاطعة الانتخابات شكّلت بحدّ ذاتها موقفاً لكثيرين، خصوصاً بعدما أدرك اللبنانيون أنّ الورقة ​البيضاء​ قد تكون بموجب قانون الانتخاب خدمةً للأحزاب النافذة في العديد من الدوائر، كونها تُحتسَب مع الحاصل الانتخابي، بما يرفعه ويصعّب المهمّة بالتالي على القوى المنافسة. وإذا كان على القوى الأساسية أن تأخذ العبرة من ذلك، فإنّ على القوى المدنية والمعارضة بدورها أخذ العبرة، على اعتبار أنّ تفضيل الناس مقاطعة الانتخابات على إعطائها صوتها يعني في جملة ما يعنيه أنّها بدورها لم تقدّم لها النموذج البديل المقنع والمرتجى، وهنا بيت القصيد.

صفحة طويت...

طويت صفحة الانتخابات، ومعها ستُطوى صفحة التحالفات الهجينة، ويبدأ رسم معالم خريطة سياسية جديدة، لن تختلف كثيراً عن سابقتها، إلا في الشكل، على اعتبار أنّه بعدما تستيقظ الأحزاب السياسية من نشوة "الانتصار المزعوم" الذي حقّقته، ستعود إلى "واقعيّة" حكمت عملها على مدى السنوات السابقة، تقوم على مبدأ "الديمقراطية التوافقية".

لكن، وقبل طيّ الصفحة، لا بدّ من نقدٍ ذاتيّ يبادر الجميع إليه، لأنّ الانتخابات، وإن لم تحمل مفاجآت نوعية كبيرة، حملت من الرسائل الكثير، رسائل لا بدّ أن تحمل القوى السياسية، موالية ومعارضة ومستقلة، إلى مقاربة جديدة للواقع اللبناني، مقاربة يفترض أن تضع في الاعتبار إعادة ربط اللبنانيين بوطنهم، وحملهم على المشاركة في صنع القرار فيه، بدل اليأس والاستسلام بكلّ بساطة كما هو حاصل اليوم...