هناك «قطبة مخفيّة» في ​الانتخابات​ النيابية التي جرت الأحد، تحضيراً واقتراعاً وفرزاً. فقد جرى الحديثُ عن كميةٍ هائلة من الفضائح بالرشاوى والضغوط، وعن تجاوزاتٍ مفضوحة ل​قانون الانتخاب​، ذكرتها الجمعياتُ الرقابية ووثّقتها أحياناً، وسجّلتها هيئة الإشراف. ولكن، على رغم كل شيء، لم يتم توقيفُ مرشّح أو محاسبة مسؤول... وجرت الانتخاباتُ وكأنّ شيئاً لم يكن!

عشية انتخابات ​6 أيار​، نشر معهد «غالوب» دراسة أظهرت أنّ 15 % فقط من ال​لبنان​يين يثقون في أنّ هذه الانتخابات ستكون نزيهة. وذكّر المعهد بأنّ دراسة مماثلة أجراها قبيل ​الانتخابات النيابية​ في العام 2009 أظهرت أنّ 39% من اللبنانيين كانوا يثقون في أنّ الانتخابات، في حينها، ستكون نزيهة.

في الترجمة، يعني هذا الرقم أنّ ثقة اللبنانيين بنزاهة الانتخابات تراجعت في الأعوام الـ9 الأخيرة 24 نقطة، وتقلصت في شكلٍ يدعو إلى القلق.

وارتباطاً، تورد الدراسة أنّ 95 % من اللبنانيين كانوا يعتبرون، في العام 2017، أنّ ​الفساد​َ مستشرٍ على نطاق واسع في مؤسسات الدولة. وأشارت إلى أنّ ثقة اللبنانيين في سلامة إدارة مؤسسات الحكم لشؤون البلد تتأرجح ضمن حدود 22%.

إذاً، عندما يغرق اللبنانيون- ووفق معهد معروف عالمياً بدقَّته- في هذا الحدّ من التشكيك بنزاهة الانتخابات ونزاهة الطاقم السياسي الذي يديرها ويدير البلد، يصبح واضحاً تفسيرُ الظاهرة التي صدمت عدداً من القوى السياسية، وهي ضآلة الإقبال على صناديق الاقتراع.

بعدما فُتِحَت صناديق الاقتراع، يوم الأحد، لوحظ أنّ الإقبال متدنٍ جداً في غالبية الدوائر، وخصوصاً لجهة الناخب المسيحي ثم السنّي والدرزي، فيما الدينامية كانت أعلى في ​البيئة​ الشيعية.

اضطُرت الماكيناتُ الانتخابية بعد الظهر إلى ممارسة الحدّ الأعلى من الاستنفار لأنصارها والمتردّدين. ولكن ذلك بقي دون المستوى المطلوب. عندئذٍ، اضطُر رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ إلى إطلاق ندائه مستبقاً إقفالَ الصناديق، ومذكِّراً بأنّ الناخبين الموجودين داخل القلم يبقى لهم الحقّ في الاقتراع بعد السابعة مساءً.

كان نداءُ الرئيس أشبهَ بنداءِ استغاثة. وبعده، ارتفعت نسبةُ الإقبال بنو ملحوظ. وفي الساعتين الأخيرتين، كانت الماكيناتُ الحزبية مستنفِرةً إلى الحدود القصوى.

يقول خبراء إنّ مزاجَ الناس عموماً، و​الشباب​ خصوصاً، مال إلى الاعتراض والقرف من الجميع وكل شيء. فهو اكتشف أنّ الشعارات التي ترفعها غالبية القوى، والتي تدّعي التغيير والتصدّي للفساد، ليست سوى عناوين برّاقة الهدفُ منها جذب الجماهير.

لكنّ المأزق هو في عدم وجود البديل المناسب من هذه القوى. وما يُسمّى «المجتمع المدني» تشرذم شرائحَ عدّة ومُنِع من تحقيق الحاصل الانتخابي. فالقوى المدنية «النظيفة» عُزِلت واستُضعِفَت وتمّ خلقُ نماذج مختلفة ترفع شعار «المجتمع المدني» هدفها ضرب ​الحراك المدني​ الحقيقي.

لذلك، ضاع الناس بين لوائح السياسيين الرافعين الشعارات واللوائح المدنية، وأصيبوا بالإرباك بين الشعارات الصحيحة والمزيَّفة، فقرّر قسمٌ كبيرٌ منهم عدمَ التوجُّه إلى الصناديق.

في المقابل، مارست القوى السياسية، ولا سيما منها بعض قوى السلطة، أشنعَ أنواع الترغيب والترهيب المادي والمعنوي على الناخبين، لدفعهم إلى الاقتراع. ولذلك، توجَّه هؤلاء إلى الصناديق ينتابهم شعورٌ من الخوف أو الحوافز المادية أو المعنوية... أو القرف!

ويكشف نشطاء في الهيئات المعنية بنزاهة الانتخابات أنّ تقارير مقلقة عن حجم التجاوزات التي ارتُكِبت خلال الانتخابات الأخيرة أصبحت متداوَلة في عدد من الأوساط، وبدأت تتلقّفها الأقنية الدولية المعنية من خلال السفارات والطواقم الديبلوماسية المعتمَدة.

وفي هذه التقارير معلوماتٌ عن حجم كبير من المخالفات المالية والإجرائية والمعنوية، بعضها يمكن توثيقُه بسهولة والتأكّد منه. ويمكن أن يؤدّي ذلك إلى نسف الانتخابات كلياً أو جزئياً، إذا ما جرى الطعنُ فيه، وإذا ما أُتيح للمجلس الدستوري و​الأجهزة الأمنية​ والقضائية والإدارية أن تطلق أحكامَها وتقوم بدورها. وهيئة الإشراف يُفترض أن تكون أكبرَ خزّان للمعلومات اللازمة.

حتى اليوم، لا يبدو في الأفق ما يوحي بأنّ القانون يمكن أن يأخذ مجراه بعد انتهاء العملية الانتخابية. ويرجّح حقوقيون أن يكون مصيرُ أيِّ طعنٍ «جدّي»- يتعلّق برؤوس كبيرة أو بقوة سياسية ذات شأن- كمصير كل الشكاوى من نقص الشفافية في تعاطي ​مجلس الوزراء​ أو بعض الوزراء مع بعض الملفات والمشاريع، وهي كثيرة جداً.

ولكن، المؤكّد أنّ المجتمعَ الدولي يراقب ما يجري ويسجّل. وأساساً، تلقّى لبنان مراراً عدداً من الملاحظات بضرورة الدخول في ورشة إصلاح حقيقية، لأنّ البلد بات على وشك الإفلاس بسبب الفساد والطاقم الذي يديره بنهج الفساد. وقد طالبت المؤسسات الدولية بأن يغيّرَ الطاقمُ السياسي سلوكه وإلّا فليتغيّر هذا الطاقم.

مثلاً، في ملف ​سلسلة الرتب والرواتب​ الذي تأرجح سنواتٍ كان مطلوباً عدمُ إقرار الملف إلّا بعد إجراء إصلاحاتٍ جدّية في المؤسسات العامة والمرافق، وبعد تنظيف الإدارة نفسها من الفاسدين. فلا تجوز مكافأة الفاسدين بزيادة رواتبهم ومساواتهم بغير الفاسدين، ولا تعريض مالية الدولة للخطر بقرار السلسلة الاعتباطي.

لكنّ الطاقمَ السياسي رفَض إجراء الإصلاحات لأنّ الإدارة كلها محسوبياتٌ للزعماء، كما أنه يطمح إلى استمرار تقاسم المغانم في المشاريع والمرافق والمؤسسات العامة. والواضح أن لا رغبة في اعتماد أيِّ إصلاح في المؤسسات.. واستتباعاً يصبح مستحيلاً الإصلاحُ في قانون الانتخاب، لأنّ القوى التي تنتجه تتواطأ لحماية مصالحها.

ويقول خبيرٌ اقتصادي: «عندما يعلن رئيس الجمهورية أنّ لبنان مفلس، وعندما يخبّئ المسؤولون حقيقة الوضع المالي- الاقتصادي منعاً للفضيحة، وعندما لا يكون هناك أفق للحلول، تكون الانتخابات مجرّدَ تكريسٍ للأزمة، ويكون ​المجلس النيابي​ الجديد هو مجلس التفليسة… وبعد ذلك، ستكون للبنان حكومةُ التفليسة أيضاً!

في هذه الحال، لن يكون مستغرَباً أن يستغلّ المجتمعُ الدولي فسادَ الطاقم السياسي اللبناني وإفلاس المؤسسات لفرض الشروط مقابل الإنقاذ. وهل هناك من مؤشرات إلى هذه الشروط أكثر وضوحاً من مؤتمر ​بروكسل​ الأخير؟