جاءت نتائج انتخابات ​مجلس النواب​ تحمل مفاجآت. بعيداً عن التموضعات السياسية، والحسابات الحزبية، يخسر المجلس أباطرة التشريع، النوّاب: نقولا فتّوش، ​بطرس حرب​، ​إميل رحمة​، وغسان مخيبر، وروبير غانم. هي ليست المرة الاولى التي سيفتقد فيها مجلس النواب لأصوات مشرّعين خبراء يفقهون في خبايا القانون والدستور. لكن ساحة النجمة خسرت الخمسة جميعهم دفعة واحدة، بسبب طبيعة القانون الانتخابي الجديد، معطوفة على التموضعات السياسية التي سبقت الانتخابات، ثم التي انتجت التحالفات والخطابات التحريضية التي مارستها القوى السياسية ضد الخمسة الذين خاضوا الانتخابات منهم، في دوائرهم : زحلة، البترون، المتن، وبعلبك–الهرمل.

كان فتّوش مشرّعاً من الطراز الأول، يغوص في دهاليز الدستور والقوانين، ليُخرج منها الفتاوى، مستنداً الى خبرته في المحاماة وممارسة التشريع النيابي على مدى عقدين ونصف العقد. ظُلم فتّوش في مسيرته السياسية المفتوحة، بسبب حملات شنها خصومه ضده، فركّزوا على "حرتقات"، وتعمّدوا تجهيل انجازاته في اقتراح القوانين التي طالب فيها بتخفيف الضرائب عن كاهل المواطنين، ولا سيما معارضته مقاربة ​لبنان​ للضريبة على القيمة المضافة، ومشروعه حول ضريبة الانتقال، وقوانين بالجملة عجّت بها لجان المجلس قبل احالتها للهيئة العامة. لم يكن فتّوش يهوى الاستعراضات الاعلامية، ولم يلتحق بالركب الالكتروني في التواصل الاجتماعي الاّ في المدة الأخيرة، وبالتالي أبقى انجازاته التشريعية قيد محاضر المجلس النيابي، لكنها باتت مبوّبة في كتاب يبلغ أكثر من 600 صفحة. بقي فتّوش الصوت الوطني في المجلس النيابي، العابر للطوائف والمذاهب والاحزاب، ولم يشذ عن قناعاته. لكنه دفع ثمن ذاك الخطاب خسارة لمقعده، في زمن التحريض والتحشيد الطائفي، والتموضعات الحزبية. كان ممكناً نجاح فتّوش هذه المرة أيضا، لكنه لم ينل من حلفائه أصواتاً تحمله الى ساحة النجمة، رغم حصول اللائحة التي يرأسها على حاصلين. المشكلة في توزيع الأصوات: هل هو خلل في ماكينة حلفائه، أم حسابات سياسية قادت الى عدم تجيير الأصوات لفتّوش؟

حال فتّوش المشرّع، تُشبه وضع المشرّع حرب أيضاً. سيفتقد المجلس النيابي الى صوته، وخبرته، ومشاريعه. مسيرته الطويلة راكمت تجاربه، حتى أصبح مرجعاً دستورياً. لمع نجمه في جلسات اللجان النيابية، والهيئة العامة للمجلس. كان "بلدوزر التشريع"، يوجّه ويصوّب ويُفتي، يقترح ويعدّل. شكلت مرجعيته سندا" للنواب ومجسلهم. كان مشرّعا" من الطراز الأول، لم يعتد كما فتّوش على التباهي أمام الرأي العام عن انجازاته البرلمانية، الاّ عبر بيانات متواضعة على الطريقة الاعلامية التقليدية. الوزن التشريعي عند حرب يوازي كتلا نيابية جرّارة. ستفتقد ساحة النجمة لمداخلاته التشريعية القيّمة وخطابه السياسي المعتدل، رغم انحيازه في السنوات الأخيرة الى جبهة "14 آذار". الانتخابات الحالية أدت الى خسارة حرب لاسباب عدة.

الخسارة النيابية أيضاً، هي لرحمة الذي لمع نجمه في ساحة النجمة، مشرّعاً، تشهد له لجنة الادارة والعدل، يستند الى خبرته القانونية. كان رحمة صوت لبنان في المجالس العربية والاقليمية، والدولية، التي مثّل بها لبنان. كان نائب دير الأحمر على قدر المسؤولية التشريعية والوطنية، فتعمّد رئيس المجلس النيابي ​نبيه بري​ إرساله الى تمثيل لبنان في اجتماعات الاتحادات البرلمانية العربية والاسيوية والاقليمية والدولية. برع في التميّز بين البرلمانيين. لكن رحمة خسر مقعده في انتخابات دائرة بعلبك-الهرمل، ليس بسبب عدم كفاءته السياسية ولا التشريعية، بل بسبب التحشيد السياسي الذي تضمّن خطاباً طائفياً حاداً ضد حلفاء رحمة. ذنب رحمة انه انحاز الى المقاومة مع الشعب والجيش، فحمل تلك المعادلة في كل خطاباته وأدائه السياسي. علماً أن رحمة أعاد النكهة للعيش المشترك في قضاء بعلبك، ولعب دور الرابط الوثيق بين المسيحيين والمسلمين بكل مذاهبهم، فأقام تمثال السيدة مريم العذراء على مدخل مدينة الشمس بأيدي المسلمين. امثال رحمة يجمعون ولا يفرّقون. لكن الحسابات الانتخابية أبعدته عن ساحة النجمة. فهل دفع ثمن خطابه الانفتاحي؟ لم يحمه حلفاؤه في مقعده النيابي. كان بمقدروهم حمايته من خلال توزيع أصوات تجيّر له أرقاماً محددة شكّلت فائضاً عند مرشحين آخرين، لكنهم فضّلوا نواباً آخرين لحسابات معينة.

الحقوقي الذي برع في تبني قضايا حقوق الانسان، وحمل رايتهم في المجلس النيابي وخارجه، غسان مخيبر، المشرّع في مطبخ ساحة النجمة، من اللجان الى الهيئة العامة. شكّل ملجأ للمضطهدين والمتروكين والمنسيين، وسنّ لهم تشريعات سوقّها بين زملائه وسعى لاقرارها. امتازت مسيرته النيابية بطرح مشاريع القوانين، فراكم انجازاته التشريعية بصمت أيضا"، في وقت كان زملاء له يتغنون بأي تشريع أو طرح في المجلس. دفع مخيبر ثمن طبيعة القانون الانتخابي والتحالفات السياسية، خصوصا" أنه لم يلتمس محاكاة الجمهور عن طريق البروباغندا والتجييش السياسي والاعلامي. ستفتقد دوره جمعيات انسانية عدة، تبنى قضاياها وطروحاتها الى أبعد مدى.

التشريعي الذي اتخذ من مهاراته دافعا لتسويق اسمه مرشحا لرئاسة الجمهورية هو النائب روبير غانم، السياسي العتيق الذي انحاز الى قوى "14 آذار"، لكنه دفع ثمن التموضعات الانتخابية التي قادته الى التخلي عن الترشح للنيابة. ظلّ غانم رئيسا" للجنة الادارة والعدل النيابية في السنوات الماضية. قارع، ودوزن، وأفتى، واجتهد الى حد مراكمة خبرة تشريعية دسمة، سيفتقد اليها المجلس النيابي. حاله، كحال فتّوش بعيد عن الاستعراضات الاعلامية في اظهار انجازاته النيابية.

انها لعبة القانون الانتخابي النسبي الجديد، معطوفة على حسابات سياسية اطاحت بأربعة أباطرة في التشريع، وهم مستقلّون عن الأحزاب المسيحية التقليدية والناشئة، رغم أنهم أوجدوا حالات شعبية عريضة، حملتهم الى ساحة النجمة دورات عدة. فهل هناك بدلاء على قدر المسؤولية؟ فلننتظر جلسات المجلس. لكن التجربة علّمت ان اللبنانيين الناخبين لا يحكمون على الكفاءة التشريعية والسياسية، بقدر احتكامهم للمعايير الحزبية والطائفية والخطابات التجييشية، خصوصا في هذا الزمن. فهل هو زمن القحط التشريعي؟ أيضا"، فلننتظر.