أتت نتائج ​الانتخابات النيابية​ وفق الصوت التفضيلي، لتبيّن أحجام القوى السياسية. انصرفت الآن الأحزاب للتقييم بهدوء، وتحديد مكامن الخلل، وعناصر القوة، ومحاسبة المقصّرين، والمراكمة على الايجابيات. وفيما ظهرت المشكلة في الخطاب السياسي عند القوى المسيحية، برزت الأزمة في تردّي دور "المستقبل" كتيار سياسي، وعدم رضا الشارع الشيعي عن أسماء مرشحي حركة "أمل"، وتخبط الشارع الدرزي بالخطاب والدور وما تحمله الأيام من خبايا سياسية.

على الصعيد المسيحي، كان حزب "القوات" أول المبادرين الى قراءة النتائج، لتصويب الأخطاء، وتفادي الوقوع بالمطبّات. ابدى "القواتيون" ارتياحاً واضحاً بعد التقدم الذي حققوه، كما حال التيار "الوطني الحر"، الذي يتجه لمعالجة بعض نقاط الضعف، خصوصاً في دوائر بعلبك-الهرمل، والزهراني، ومرجعيون، والتراجع في المتن وجبيل-كسروان نسبياً أمام مدٍ قواتي، لا زال مضبوطاً. أرقام النتائج التي نالها كل من حزبي "القوات" و"الوطني الحر"، فرضت مزيداً من الاستنفار المتبادل، لكن كلا الفريقين مطمئنان الى النتائج بالأرقام التفضيلية. مع فارق، أن "القوات" أكثر إطمئناناً ورغبة بوضع خطة عمل للتوسع، تستند الى تقديمها اسماء موثوق بقدراتها النيابية والوزارية.

لكل دائرة ظروفها وطبيعة السباق فيها. لكن المشكلة العظمى برزت عند الكتائبيين، الذين يعيشون واقعاً انحدارياً أمام الثنائي القواتي-العوني.

ظهر أن حجم حزب "الكتائب" أقل من دوره التاريخي بأضعاف، ولم ينل الحزب في الدوائر الانتخابية، ما عدا المتن وبيروت الاولى أصواتاً تخوّل مرشحيه الوصول الى ساحة النجمة. لا بل، ان الارقام التي نالها "الكتائب" في زحلة مثلاً، أظهرت واقعاً صعباً. هذا التراجع الكتائبي فرض انتقادات حادة بين الاوساط المحازبة. فلم يكن الانتقاد لطبيعة المرشحين، بل بمعظمها صبّت حول السياسات التي يتّبعها رئيس الحزب النائب سامي الجميّل في مقاربة الملفات وعلاقته مع القوى السياسية، وسط قلق من تنامي الحالة القواتية على حساب الكتائبيين بعد صمود وصعود شهدته السنوات الماضية، إبّان مرحلة نجومية الوزير الشهيد بيار الجميّل وما تلاها.

لم تقتصر القراءة على الأرقام التفضيلية، بل حملت الانتخابات نواباً مسيحيين من خارج السرب الحزبي الثلاثي، سيشكّلون صُلب المعادلة في اي تحرك مرتقب لتكتل يسعى الى صناعته الوزير السابق سليمان فرنجية.

ستترك الارقام تداعيات في شأن المحاصصات الادارية: سيطالب "القوات" بمناصب ومراكز في شتى المجالات، مستندين الى حجمهم النيابي وارقامهم التفضيلية، في ظل سباق مع التيار "الوطني الحر".

انحدار سريع لتيار "المستقبل"

على الصعيد الانتخابي في الساحة السنّية، أظهر "التفضيلي" تراجعاً واضحاً في تمثيل "المستقبل"، الى حد كبير في طرابلس-المنية-الضنّية، وبيروت، والبقاع الغربي، وصيدا. هذا يرمز الى ضعف "المستقبل" في مناطق ثقل السنّة، فأعطى الشمال أرقاماً وازنة لرئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، واهدى فوزاً سهلاً لشخصيات "8 آذار"، كالوزير السابق فيصل كرامي، والنائب جهاد الصمد. اما صيدا فأعادت دور النائب اسامة سعد، وأعطى البقاع الغربي الأفضلية الى الوزير السابق عبدالرحيم مراد. وفي بيروت، كانت أصوات السنّة توزع الادوار بين "المستقبل" و"المشاريع" وفؤاد مخزومي. هذا بحد ذاته، سبّب ازمة لتيار رئيس الحكومة سعد الحريري الذي إنصرف لقراءة الأرقام، للحدّ من التدهور الحاصل في جمهوره الازرق، رغم استعداده المسبق بتغيير الاسماء وتجديد روح الشباب في صفوف ممثلي التيار، لكن ذلك لم يخفف من الانتقادات حول تكراره ترشيح شخصيات دارت حولها علامات استفهام في الاداء السياسي والنيابي والوزاري. بالأرقام، تراجع "المستقبل"، وذلك سيرتّب تداعيات على التمثيل الحكومي والاداري والوظيفي. فلم يعد بمقدور الحريري الادّعاء انه يمثّل السنّة وحده. ستبدأ المطالبة بحفظ موازين القوى جميعها، من التمثيل الحكومي، الى الوظائف الادارية، والتعيينات الامنية والعسكرية والدبلوماسية وغيرها.

في قراءة "المستقبل" لما حصل في الانتخابات، هناك من سيتحمّل مسؤولية التدهور الشعبي، والتمثيل النيابي، وتراجع عدد نواب الكتلة، وانخفاض الارقام التفضيلية نسبياً. لقد بدأ وضع النقاط الزرقاء على الازمة المستقبلية.

ما بين "أمل" و"​حزب الله​"

القصة تختلف عند "الثنائي الشيعي"، رغم حصدهما معاً كل المقاعد النيابية، بإستثناء دائرة جبيل التي فشل فيها حزب الله بإيصال مرشحه حسين زعيتر، وحلّ مصطفى الحسيني بديلاً منه. لكن الحديث يدور في الوسط الشيعي عن حجمي "حزب الله" و"حركة امل". كان مرشحوهم في لوائح موحّدة، لكن الاصوات التفضيلية صبّت لمرشحي الحزب بضعفي أصوات مرشحي الحركة، بشكل لافت في كل الدوائر.

منذ ما قبل الانتخابات تمايز خطاب الحزب عن خطاب الحركة، لناحية التركيز على مكافحة الفساد، وتعدد اطلالات الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وحثّه الناخبين على اختيار مرشحي لائحة "الأمل والوفاء". قوة الحزب ظهرت في كل الدوائر الجنوبية والبقاعية، فنال نوابه أضعاف ما نال نواب ووزراء الحركة من أصوات تفضيلية، رغم وجود بعض مرشحي الحركة في دائرة القرار والضوء منذ اكثر من عشرين عاما، لدرجة أن مرشحي "حزب الله" تفوّقوا على وزيري "حركة امل" علي حسن خليل وغازي زعيتر في بلدتي الاخيرين: الخيام جنوباً، والقصر-الهرمل بقاعاً، بأشواط.

هذا كان محط تقييم "حزب الله" الذي تتحدث كوادره عن معادلة "ثلثين للحزب وثلث للحركة" في التمثيل الشيعي. الكوادر لا تخفي في مجالسها الكلام عن نية الحزب ترجمة تمثيله النيابي على قدر حجمه، في الوزارات والادارات والتعيينات. هي ترى أنها قادرة على محاربة الفساد، بعد تشكيل هيئة حزبيّة خاصة معنية بالمتابعة، وتقديم نموذج جيد في ادارة الدولة.

لذلك ستواجه "حركة امل" ازمة في التعاطي مع الواقع الجديد الذي أفرزته صناديق الاقتراع، بعد تدنّي نسب التفضيلي لمرشحيها الذين استمروا في السلطة منذ التسعينات من دون تجديد ولا تغيير في الأسماء. ربما تكون الحركة دفعت ثمن تسميتها لشخصيات لم يبرز معظمهم في العمل التشريعي طيلة فترة تمثيلهم النيابي منذ خمس أو ست دورات انتخابية، وشاعت حول اداء بعض وزرائها انباء عن صفقات وفضائح اوردتها وسائل الاعلام طيلة الفترة الماضية. فيما يدور نقاش في الوسط الشيعي الآن، فحواه ان الأصوات التي اقترعت لمرشحي "امل" هي كرمى مكانة ودور رئيس المجلس النيابي نبيه بري فقط، الذي يشكّل ضمانة للبلد، وخصوصاً الشيعة. لم يخفِ انصار الحركة انزعاجهم من الارقام المتدنيّة، فإزداد سخطهم على قياديين باتوا بعيدين عن الواقع التنظيمي، والشعبي، بعد انشغالهم بالمناصب، فدخلوا مرحلة الترهّل.

وهّاب يقلق تيمور جنبلاط

رغم عدم نجاح الوزير السابق وئام وهّاب في الانتخابات النيابية، لكن الرقم التفضيلي الذي ناله يُقلق الحزب "التقدمي الاشتراكي"، وتحديداً النائب المنتخب تيمور جنبلاط. فقد تفوّق وهّاب على وزير التربية مروان حمادة، رغم تفكك جبهة "8 آذار" في دائرة الشوف-عاليه، وتوزيع اصواتها بين مختلف اللوائح والمرشّحين. الرقم الذي ناله وهّاب، احدث قراءة جدية في صفوف "التقدّمي" الذي لا يقلقه وضع وزير الدولة لشؤون المهجّرين طلال ارسلان، بقدر ما يزعجه تقدّم وهاب. فرئيس حزب "التوحيد العربي" كسر المعادلة الدرزية التقليدية السائدة منذ عقود، ودخل بالرقم التفضيلي الذي ناله الى صُلب المعادلة عملياً رغم عدم فوزه. يقرأ الاشتراكيون الرقم "الوهّابي" بتمعن، وتدقيق، لكنهم يتجاهلون رقم ارسلان الذي لا يحمل جديدا الى الساحة الدرزية.