رحل مطران الشباب المثلّث الرحمة جورج اسكندر بعدما أتمّ رسالته التي بدأت بتأسيس أبرشية زحلة في العام 1977 وامتدت الى المجمع البطريركي الماروني وجمعيات ولجان اسقفية عدة، ومنها اللجنة الاسقفية لرسالة العلمانيين المنبثقة عن ​مجلس البطاركة والاساقفة الكاثوليك​، ولجنة يوبيل العام 2000 وجمعية "الشبية العاملة المسيحية" التي تعنى بشؤون الشباب العمّال. بدأت معرفتي به من خلال "المجلس الرسولي العلماني" الذي كان يرعى شؤون العلمانيين وينظّم مشاركة وفد ​لبنان​ في "الأيام العالمية للشباب" في مختلف انحاء العالم، وتُتوّج بلقاءات مع الحبر الأعظم. في العام 1997 كان المجلس الرسولي منهمكاً بتنظيم مشاركة لبنان في "الأيام العالمية للشباب" في فرنسا في صيف ذلك العام. كان اندفاع الشباب اللبناني للمشاركة في هذا اللقاء كبيرا، لأنه أتى عقب زيارة البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى لبنان في شهر أيار من العام ذاته لإعلان "الإرشاد الرسولي رجاء جديد للبنان"، في زمن الوصاية السورية، يُضاف الى ذلك موقع فرنسا المميّز في قلوب اللبنانيين، التي، يصفونها بالأم الحنون وهي كانت تحتضن المعارضة اللبنانية وقتها وعلى رأسهم الرئيس العماد ​ميشال عون​. بلغ عدد الوفد المشارك أكثر من 2400 شاب وشابة، وهو الأكبر في تاريخ تلك الأيام، توزّع فيها أعضاء الوفد على مختلف الأبرشيات الفرنسية. تطوّعتُ وقتها للعمل في اللجنة الإعلامية للمجلس الرسولي العلماني التي كانت برئاسة ​الأب بطرس عازار الأنطوني​، الأمين العام الحالي للمدارس الكاثوليكية. كان ​المطران جورج اسكندر​ عضوا في اللجنة الأسقفية لرسالة العلمانيين وقتها، قبل أن يرأس اللجنة بعدها لأكثر من عقد، خلفاً للمثلّث الرحمة المتربوليت حبيب باشا. اختبرنا في المطران اسكندر فضيلة التواضع، يتصرّف من دون تكلّف، يكسر الحواجز النفسية مع من حوله، يتصرّف وكأنه مجرد كاهن وليس أسقفاً، يُنصتُ الى الآخرين، لا يُطلق الأحكام على أحد، لا بل يتفهم الجميع، يرمي طرفة لتبديد موقف مُتشنّج. لم يمنعه سنّه المتقدم ولا مشاكله الصحّية من العمل بنشاط، كان دائم الحضور للمساعدة والخدمة، وقد اكتسب ذلك من العمل الكشفي الذي انضم اليه باكراً قبل أن يُصبح مرشداً لكشافة لبنان. كان قريبا من الشباب، يؤمن بدورهم في الكنيسة ويعطيهم حقهم، لا بل يضعهم في الواجهة ويمشي خلفهم. تطور عمل المجلس الرسولي، وبعد الأب عازار تسلم اللجنة الاعلامية الصحافي غسان حجار، الى أن تسلمتها خلفاً له ورافقت المطران اسكندر في المجلس لغاية العام 2003 حيث انتقلت بعدها للعمل خارج لبنان، من دون ان تنقطع صلاتي بالراحل. في العام 2000 عينّني المطران في لجنة يوبيل العام الفين التي كانت تنسّق مع وزارة السياحة لتحضير احتفالات اليوبيل في لبنان، ومن خلال المجلس الرسولي كنا ننسّق مع الفاتيكان لتأمين مشاركة وفد لبنان في احتفالات اليوبيل و"الأيام العالمية للشباب" في عاصمة الكثلكة، هذه المرة. هنا لا بد من التنويه بجهود المطران اسكندر في هذه التحضيرات وبأعضاء المجلس الرسولي العلماني وأخص بالذكر الأمين العام للمجلس وقتها طانيوس شهوان والأمين الأسبق روبير سكياس. كان المطران اسكندر دائما يطلب من العلمانيين أن يتحدّثوا في وسائل الاعلام المحلية والدولية، ليشهدوا للمسيح في حياتهم ولا يقبل أن يحصر الحديث بشخصه. على هامش برنامج روما نظّم المطران اسكندر رحلة حج الى كنيسة القديس انطونيوس البدواني وكنيسة ودير القديس فرنسيس في أسيزي وكنيسة ودير القديسة ريتا في كاشيا. تضمّن البرنامج زيارات سياحية أيضا الى البندقية وقد تفاجأنا بأن الفندق الذي اختاروه لنا كان متواضعا، لكن المطران اسكندر والأب العام الإقليمي للآباء العازاريين جورج أبو جودة، مطران ابرشية طرابلس المارونية الحالي، تقبّلا الأمر بكل طيبة خاطر، فما كان من الشباب إلا أن تقبّلوه بدورهم، بعدما كانوا شبّهوه بفندق "فطوم حيص بيص" في مسلسلات "غوار الطوشي".

بعد إيطاليا رافقنا المطران اسكندر الى "الأيام العالمية للشباب" في كندا في العام 2002. كانت أميركا الشمالية، ومنها كندا، لا تزالان ترزحان تحت وقع اعتداءات نيويورك، فكان على المجلس الرسولي من جهة تأمين التأشيرات للوفد المرافق الى كندا، في ظل التشديد على منح التأشيرات لسكان بلدان الشرق الأوسط، ومن جهة ثانية وضع آلية تضمن عدم بقاء عشرات الشبان المسافرين معنا في كندا. على هامش البرنامج الرسمي للزيارة رتّب المطران جورج اسكندر لقاءات مع الجالية اللبنانية هناك وخصوصا في ويلينغتون حيث كان المونسنيور إيلي زوين كاهن هذه الرعية، التي تضمّ آلآف اللبنانيين الذين أقاموا تمثالا للعذراء على غرار تمثال سيدة حريصا. كذلك انتقل المطران اسكندر الى العاصمة الكندية أوتاوا لسيامة كاهن من أبرشية زحلة في كنيسة مار شربل المارونية. واللافت كان زيارة الوفد اللبناني الى مخيم للهنود، سكان كندا الأصليين، يقدمون فيه عرضا لرقصاتهم الفولكلورية، لم يتوانَ المطران اسكندر عن مشاركتهم في عروضهم وهو ما حدا بهم الى تقديم عصا خشبية له كهدية تذكارية، على غرار العصا الأسقفية التي يحملها في المناسبات الليتورجية، بقي محتفظا بها في صدر صالون بيته حتى رحيله.

في العام 2003 انتدبني المطران اسكندر مع طانيوس شهوان للعمل في ملف الشباب في المجمع البطريركي الماروني، الذي انعقد في دير سيدة الجبل في فتقا، ثم كلّفني المجمع بصوغ البيان المجمعي، وكان رئيس اللجنة الأب سليم دكاش اليسوعي رئيس الجامعة اليسوعية حاليا. شكّل المجمع الذي ضمّ البطريرك الكاردينال ​مار نصرالله بطرس صفير​ وسائر الاساقفة وممثلين عن مختلف الأبرشيات المارونية في العالم وعلمانيين، شكّل حدثا تاريخيا، تبقى الوثائق التي صدرت عنه شاهدا على مدى أهميته، وخصوصا أن المجمع الأخير الذي سبقه انعقد في العام 1736 في دير سيدة اللويزة.

رغم تقاعد المطران جورج اسكندر، بعد بلوغه السن القانوني، وتعيين خلفه المثلّث الرحمة المطران منصور حبيقة أسقفا على ابرشية زحلة، بقي مرجعاً لأبناء الأبرشية يزورونه دائما ويستنيرون بكلامه. كم كنت اعتز بصداقتي لهذا الأسقف، كيف لا وهو الذي كان يبادر الى الاتصال بي في عيد ميلادي لمعايدتي، رغم وجودي خارج لبنان، وأنا بالطبع أبادله الاتصالات في أكثر من مناسبة وأطلب بركته البنويّة. برحيله فقدتُ أباً روحيا ومرشدا. كم كنا نفرح عندما كنا نزوره مع عائلتي في زحلة، ونشارك معه في القداس الذي يقيمه في منزله، ونتناول القربان المقدس من يديه الطاهرتين. في كل سنة كان ينشر كتاباً، وكان يُقدّم لي نسخة عن كتابه الجديد، وكان غزير الانتاج في المواضيع الروحية والرعوية. في آخر زيارة له الصيف الفائت شعرت أن صحّته تراجعت وخطواته تثاقلت وأن صوته بدأ يخفت، فقلت لزوجتي، إنها قد تكون آخر زيارة له. وفي اتصالي الأخير معه لمعايدته خلال عيد الفصح الماضي، شعرتُ وكأنه يودّعني، كان يسألني عن عائلتي، فرداً فرداً، وعندما أسأله عن صحته يقول ماذا تنتظر أن يكون حالي في هذه السن، لكنه سرعان ما استطرد قائلا كعادته: الحمدالله على كل شيء، وكأنه يردّد مع السيد المسيح: لتكن مشيئتك يا رب لا مشيئتي.

عزاؤنا، ونحن نُشيّعه الى مثواه الأخير، أن المثلث الرحمة المطران جورج اسكندر سبقنا الى الملكوت السماوي، بأعماله الصالحة، وهو الآن يشفع لنا من عليائه بالدعاء والصلاة.