بعدما مدّد النواب لأنفسهم ثلاث مرات، وعلّقوا الديـموقراطية و"شرشحوها" تسع سنوات، تارةً بـحجة ​قانون الإنتخاب​، وطوراً بـحجة الوضع الأمنـي، وكلها حجج واهية لا تليق ببلد كان أول من مارس الديـموقراطية فـي هذا الشرق، جاءت الإنتخابات لتعيد إلى لبنان بعضاً من رقيّه وألقه الديـموقراطي.

فعلى الرغم من كل التشنجات والإتـهامات وشدّ العصبيات الطائفية والـمذهبية التـي رافقت العملية الإنتخابية، وعلى الرغم من كل العورات والثغرات التـي شابت القانون "النسبـيّ الـملبنن" الذي لا يشبه أيّ قانون نسبـيّ فـي العالـم، وعلى الرغم من عدم تكافؤ الفرص بيـن مرشحي السلطة ومرشحي الـمعارضة، وغياب البـرامج والـمبادئ والـمضاميـن السياسية والوطنية عن الـخطاب الإنتخابـي وحلول الـتحالفات الـمتناقضة والـمصالـح الإنتخابية والـمالية مـحلها، وعلى الرغم من بعض الـحملات التوعوية، بقي القانون الإنتخابـي مبهماً لشريـحة كبيـرة من اللبنانييـن وغيـر مقنعٍ لقسم كبيـر من الناخبيـن، وضاع الـمرشحون بيـن سندان "الـحاصل الإنتخابـي" ومطرقة "الصوت التفضيلي". وعلى الرغم من تدنّـي نسبة الإقتـراع ووصول بعض الـمرشحيـن إلى الندوة البـرلـمانية بأقلّ من مئة صوت، وسقوط مرشـحيـن نالوا آلاف الأصوات أكثـر من مرشحيـن آخرين فـي نفس الدائرة وأحياناً فـي نفس اللائـحة... فقد إنتصرت الديـموقراطية بـحدّها الأدنـى وجرت الإنتخابات فـي جوّ هادئ ووضع أمنـيّ مستـتبّ، ما عدا بعض الـخروقات الأمنية التـي حصلت فـي بعض الـمناطق، وبعض الإشكالات والنتائج الـمتضاربة فـي بعض الأقلام.

الإيـجابية البارزة التـي طبعت هذا الإستـحقاق هو تـمكّن حوالـي 450 ألف شاب من الإنتخاب للمرة الأولـى بعد إنتظار دام تسع سنوات، لأن السادة النواب لـم يـحتـرموا الوكالة التـي أُعطيت لـهم عام 2009 والـمُحدّدة بأربع سنوات، ومدّدوا لأنفسهم ثلاث مرات بأعذار واهية ومن دون وجه حق، حتـى لا نقول إغتصبوا السلطة من دون مراجعة أصحاب الوكالة، وكأن الشعب الذي هو مصدر السلطات، لا وجود له، أو كأنه قطيع غنـم خانع وأعمـى يسيـر مستسلماً وراء جرس "كرازه".

أمّا الإيـجابية الأخرى التـي شكّلت علامة فارقة فـي هذه الإنتخابات، هي أن نصف النواب ذهبوا إلى بيوتـهم وحلّ مـحلّهم وجوه جديدة تعدُنا بأداء مـختلف وبإنتاجية تعوّض سنوات القـحط التشريعي وغياب الـمحاسبة والـملاحقة والتدقيق.

ماذا أفرزت الإنتخابات، وهل حقّقت التغييـر الـمنشود ? لـم يسمح هذا القانون "الـخبيث" بإيصال النخبة التـي حلم بـها اللبنانيون، وشكّلت الـمحادل الـحزبية، والتدخلات السلطوية، والـمال الإنتخابـي، والـمشاركة الـمتدنية، إنتكاسة قوية للتمثيل الصحيح، وجاءت النتائج كما توقّعها معظم الـمحلّـليـن ومؤسسات الإحصاء: الثنائي الشيعي كان أكبـر الـرابـحيـن، فسيطر على كل الدوائر الـتـي تواجد فيها، وبات شريكاً فـي الـمدن السنّية بيـروت وصيدا و​طرابلس​، وحصد 26 مقعداً شيعياً من أصل 27 مقعداً، كما فاز حلفاء له من بقية الطوائف فـي مناطق عدة.

التيار الوطنـي الـحرّ مع حلفائه حصدوا أكبـر كتلة نيابية ودخلوا لأول مرة مـحافظات بيـروت و​البقاع​ والشمال، ونـجح رئيس "التيار" للمرة الأولـى بأحد الـمقعديـن الـمارونييـن فـي البـتـرون. ​القوات اللبنانية​ ضاعفت نوابـها، وتقاسـمت الساحة الـمسيحية مع التيار الوطنـي الـحر، وحققت خرقاً مدوّياً فـي دائرة ​بعلبك​ الـهرمل، واقتحمت ​جبل لبنان​ للمرة الأولى بستة مقاعد، بينما خسر تيار الـمسقبل ثلث نوابه، وتلقّى عدّة صفعات فـي بيـروت وصيدا والبقاع الغربـي و​الضنية​ وكان أبرزها وأكثـرها إيلاماً فـي طرابلس لصالـح الرئيس نـجيب ميقاتـي. أما النائب ​وليد جنبلاط​ الذي تقلّصت كتلته إلى تسعة نواب، فقد أعطاه القانون الـجديد حجماً واقعياً يتناسب مع حجمه الشعبـيّ، ولكنه فقد موقعه السابق كـ "بيضة قبان". وكذلك حافظت الأحزاب الأخرى الأقلّ حجماً وحضوراً على وجودها، وإن كان بعضها خسر جزءاً من مقاعده، فيما إستعادت قوى أخرى حضورها من خلال إستعادة مقاعدها النيابية التـي خسرتـها فـي دورات سابقة. أما الـحراك الـمدنـي الذي بــرز فـي إحدى الـمراحل كقوة شعبية تغييـرية، فلـم ينجح إلاّ فـي تـحقيق إختـراق واحد يتيم فـي دائرة بيـروت الأولى، وتبيـّن بوضوح، وللأسف الشديد، أن الناس وعلى الرغم من إستيائهم وسخطهم من الطبقة السياسية التـي حكمت البلاد وسبّبت ​الفقر​ و​البطالة​ والـمديونية الفالتة من أيّ سقف، ونشرت الظلام والتلوّث و​الفساد​، عادوا واصطفّوا وراء زعمائـهم وقادة أحزابـهم وشيوخ قبائلهم، وانتصرت العصبيّات الطائفية والـمذهبية على كل ما عداها.

أمام مشهد النتائج والأحجام الـجديدة التـي تـمخّضت عنها الإنتخابات، ستدخل البلاد إعتباراً من هذا الأسبوع، ولو بشكل غيـر رسـمـي، معركة تشكيل الـحكومة الـمقبلة وتسميةْ رئيسها، فـهل ينجح سيد العهد كما وعد، بتشكيل حكومة العهد الأولى التـي يفتـخر بـها ويعوّل عليها ?

هذا ما ستكشفه الأيام وينتظره الشعب، ولكننا ننبّه بعض الذين ينفخون أحجامهم وأعدادهم أن "من طمع فـي الفوز بكل شيء خسر كل شيء".