لست ​فلسطين​يّاً، لكن ما أن وضعتني أمي في العالم في نيسان/إبريل 1948 حتّى سمعت صوت أبي ينهر عند حلول الظلام بأن:

أسدلوا الستائر.

نحن قرب فلسطين والحروب ستشيخ. سبعة عقود وفلسطين مقيمة في السلوك والفكر والحبر والدماء. هي دمغة الوجود العربي النظيف نحضنها ولو تشبّعت أجسادنا بالموت، وألف حبرك النصوص المنقوعة بمناهضة الظلم ونحرالعدالة وتفشي المستحيلات في الإنسانية الدولية وإلتواءات العقل العالمي ومحافله العظمى الحقيرة الصغيرة.

لا أضيف إلى المشهد عن يميني حبّة خردل حيث لا فواصل بين الحياة والموت. إعتادت الجثث أن تتراكم سعيدةً فوق المعابر والحدود وتتكوّم فوق الأكفّ لتظهرفي الصور التي متّنت معنى الأرض في ذاكرة البشر الفضائية. لم يبق فوق الأرض سوى فلسطين والنار وكلّهم صاروا هواءً حارقاً في عصر ​الفضاء​. كلّهم فقدوا عناصرهم إلاّ فلسطين تحرس النار والهواء والتراب وتضحتقر الفضاء. لا قيمة للكتابة الجوفاء في الأرجاء. لا عظام عربية تحملها بل آذان تسمعها وعيون تلحقها بنشوة التوق المرضي إلى سلطة الكلمة الواقعة في حمّى الشاشات.

صار تحقيق الصور القوية الصادمة موضة العصر بعدما كانت القوة لمن يزرع الكلام ليحصد السلاح والأرباح.

أقول زراعة الكلام مع الوعي بأنّ حضارة العالم تزرع النباتات في الفضاء وفي الماء لكنّ فلسطين مزروعة وحدها في التراب المقدّس نموذجاً للإنتماء في مشاعية الكرة.

أغطّ أصابعي في الفجر القاعد بيني وبين عقلي/جسدي/عروبتي بحثاً عن الكتابة المشوّكة خارج فلسطين والقدس في عصرٍصار البعض ينظرون إليها وكأنّها فلساً من طين.. إنّه الطين الذهبي لتشقّق النصوص والنفوس والأمم والرؤوساء وقد تشتّتت أجيالها لنزرعها قضية الأبد في دماء البشر وذكائهم وألسنتهم المتبلبلة الواسعة في الأرض.

أليس إنسحاب الكلام/الوجه عنها هو المشابه للكلام عن اللغة من دون كلمات، أو القول بالمكتبات من دون كتب، أو تشبيه الجمعات بالحقول الجرداء التي ما عادت تصلح للأبجديات، وذلك في بحث جميل أحاول الربط فيه بين الكتابة والفلاحة.

إصغوا إليّ وإلى فلسطين:

حاول الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه الجمع يوماً بين الريشة والمحراث ، فذكر أن كلمة page معناها صفحة الكتابة تأتي من pagus في أصلها اللاتيني ، وهو ما لم أقع عليه. وقعت على مصطلح شبيه هو pagina الذي يعني "الحقل المزروع" وأستخدمه هنا بمعنى مقال أو المقالة. وعثرت على مصطلح الكتابة باللغة اليونانية boustrophédon وهو قسمان: bous وتعني الأبقار والثيران بالعربيّة، وstrophèdon وتعني الدوران من اليسار إلى اليمين وبالعكس. هو حركة الدراسة على البيادر.

لا أستبعد هنا عند تشبيه الأثلام بسطور الكتابة والحقول بصفحات ​الجريدة​ أو الكتاب، أن يكون مصطلح "الفدّان" باللغة العربية قد نقل عن Phédon باليونانية مع تبديل بسيط. يشقّ الفدّان بنيره ومحراثه يقوده الفلاح العربي عابراً به أرض العرب و​الإسلام​ راسماً فلسطين بأثلامه المستقيمة. لا تنزل الأثلام متعبة رخوةً إلى تحت ولا يصيبها الإعوجاج أو التبعثر ولا الفوضى. إنّها قانون الحضارة الزراعية التي نستلّ منها الكتابة المستقيمةً فوق صفحات الدفاتر والشاشات لا تنزل إلى تحت ولا ترتفع ألى فوق السطور. فلسطين بها نرسم أيها العالم تساوق النوتات الموسيقية ونمحو بها كلّ نشاز لنعيدكم منت الفضاء الفارغ إلى لحظات الخلق الأولى والهندسة العظمى تمهيداً لخطى ما قبل الإنسان الأوّل؟

ما هذا الإنسان القاييني الدوّار فيكم بتاريخ يعشق الدماء ويحوّل الدول والشعوب والأفراد بلا حدود أو سلطات وبلا حضارات ليسقط التعبير فيها عن مآسي الأرض أعني فلسطين؟

تتحوّل الحروب المعاصرة والكتابات عن المعارك والصراعات والخرائب، وكأنّ طوفاناً ثانياً يغمر العالم بلعبة المعلومات والصور، مكتسحاً الحواجز القائمة بين الشعوب، فيخلط في ما بينها بواسطة تقنيّات مدهشة مخيفة وكأننا في لقاء آدم وحواء الأسطوري الثاني، وتضعنا هذه الأسباب والأمور في عالم جديد كلياً، يجد المرء نفسه فيها أمام مسائل لا تستند إلى ماضٍ هو إبن الحاضر لا أبوه لأنّه أصغر منه بكثير.

يبدو العالم اليوم من فلسطين شرقاً مخطوطاً وغرباً مطبوعاً وشاشةً أميركيّةً وعالمية كبيرة وطاقاتٍ تواصليّةً ضخمة. هي قارات خمس فضائية تتواجد معاً، يتنافس فوق

أرضها الأسطوري والعقلي و"الفيديوي" و"الانترنتي" في شتّى الأفكار والمجالات. قد تتنوّع النصوص والمواقف في مبالغاتها وهواجسها باختلاف الأفراد والجماعات والمصالح، لكن فلسطين ولادة جذور متجدّدة في الأرض تتجاوز كلّ كشف تردّد صوت أبي المرحوم :

إسدلوا الستائر فنحن في فلسطين والحروب قد تطول قروناً كما قال عمّكم فارس في ​مجلس الأمن​ في ال 1948، لكن فلسطين هي الأرض الأسلم والأبقى ستنتصر مهما حلّق البشر في الفضاء,