في عز الأزمات السياسية الداخلية، والعربية، والاقليمية، كان ​نبيه بري​ صوت العقل. لم يبارح موقعه يوماً، ولم يهجر مساحة الجمع ساعة. هو السياسي العتيق الذي عاصر كبار القوم، حكمةً، وسياسةً، ودبلوماسيةً، وقانوناً، وأدباً، ومعرفةً، واستشرافاً.

قد تعتقد حين تخالف نبيه برّي في السياسة، أو الموقف، أنك على حق، لتثبت لك الأيّام بعدها أن الحق كان مع برّي.

غريب أمرُ هذا الرجل، لم تخب توقعاته، ولم تفشل خياراته، ولم تسقط قناعاته.

غريب امره. تذوب معه الفواصل، مهما كان حجمها. لا يشعر الشاب العشريني معه بفارق العمر، ولا الآتي اليه من بعيد، يلمس غربةً. يذيبها بري جميعُها لحظة القاء التحية عليه. يطوّع الكلمات المسنودة الى تجربة زادت برّي حكمة، وهيبة، مقرونة بتواضع، ودماثة خُلقٍ، معطوفة على رحابة صدر لا تضيق.

غريب امر هذا الرجل، كلما مرّت السنون، كلّما إزداد عدد محبيه، والمعجبين به، وانصاره، فرفد بها البلد أملاً في حركة وضعت الانسانَ هدفاً لها، من أجل أن يكون الأفضل.

تلك ثوابت ارساها الامام السيد ​موسى الصدر​، ورسّخها برّي، متحدّياً زمن القحط اللبناني والعربي والإسلامي، على مسافة اعوام تطول. ومضى برّي، لا يغيّر خطابه، ولا يتراجع عن دعواته لتقريب المسافات. راهن خصومه، واعداؤه، على فشله، لكنه نجح في سياساته، وغاب خصومه، بدءاً من البيت الداخلي: اين هم؟ أين هو؟ ماذا فعلوا هم؟ ماذا حققوا؟ ماذا انجز هو؟ من يذكرهم؟ التاريخ سيخلّده، بينما صاروا هم نسيّاً منسيّاً، منذ ساعة التواطؤ على برّي.

تثبّت الأيّام بأنه الرقم الصعب: رقم وطني، لا طائفي، ولا مذهبي، ولا مناطقي. رقم الشعب، ومحبتهم، وتبادله معهم الاحترام.

مسيرته، لا يشوبها شائبة، رغم كل محاولات التضليل التي أشيعت في زمني الحرب والسلم. أهالي ​مرجعيون​، ​المسيحيون​ قبل المسلمين، ابناء جزّين، و​مغدوشة​، وصور، وغيرهم، يذكرون ولا يتنكّرون. ​الانتخابات النيابية​ الأخيرة ثبّتت وفاءهم له، وبالتالي لكل مرشحي لائحته على مساحة ​الدوائر الانتخابية​. بفضله هو، نجح كل مرشحيه.

تلك الممارسة البرّية سرٌّ من أسرار نجاحه. طبّقها عن قناعة، الى حد العشق في أداء واجب إنساني، أخلاقي، وطني، ونجح.

هي نفسُها الممارسة التي إستولدت عنده خطاب الوحدة بين المسلمين في زمن التباعد: انا شيعيّ الهوية، سنيّ الهوى، لبنانيّ وعربيّ المنتهى. لم يكن شعاراً في خطاباته يُرفع، بقدر ما كان عنوان أداء يُترجم في كل يوم، وكل محطة، وكل مفترق.

هي مدرسته، التي تخرّج الأجيال وفق المناهج الصّدرية.

لم يعد موقع رئاسة ​المجلس النيابي​ يضيف شيئاً لبرّي. بات اقوى من الموقع. لكن، الرئاسة الثانية هي من تحتاج إليه، الى دوره، الى درايته، الى خبرته، الى هيبته، الى حكمته، الى ابوّته، الى قدرته، وإلى يده التي تمسك مطرقة يحنّ الى سماع صوتها الشعبُ ونوّابُه.

لن يملأ الموقعَ أحدٌ، لا الآن، ولا في أي أوان. فليتجرأ أحد على إدّعاء غير ذلك.

كل نائب يتوق لأن يصوّت له في رئاسة المجلس هذه الدورة. ستتوالى الكتل تأييداً، أو تترك الحرية لأعضائها بأبعد تقدير. حتى دعاة الورقة البيضاء، هم على قناعة مطلقة بأهمية دور برّي، لكنهم محكومون بسياسات ضيّقة، لا ترتقي الى مستوى مقاربة دور الرجل.

من ينتخب برّي، سينتخب الحوار، والتواصل، سيختار الخبرة، والقدرة، والريادة اللبنانية، كي يبقى برّي يقود التميّز البرلماني اللبناني على مستوى المنطقة، والعالم.

من ينتخب برّي، سيختار المصلحة البرلمانية، والوطنية، من دون الانحياز للمناكفات التفصيلية الضيّقة. لا يعني ذلك، عيباً في الخيارات الأخرى للنوّاب. لا، بل، لكل نائب و كتلة الحق بإنتخاب من يشاؤون. هو حق ديمقراطي مطلق.

لكن التاريخ سيسجّل أن نواب الأمّة إنحازوا الى وفاقهم الوطني، وأيّدوا برّي لرئاسة المجلس للمرة السادسة، فإزداد عدد النوّاب المقترعين له عن الأعوام السابقة، وغاب المنافسون نهائياً.

سيسجّل التاريخ، أن نبيه بري زعيم وطني، لم يدخل فقط في موسوعة غينيس للارقام القياسية في رئاسة مجلس نيابي، بل دخل قلوب اللبنانيين والعرب وعقولهم متدرّجاً، من دون استفزاز. اسألوا الشعب سيجيبكم، قبل ان تفرزوا اصوات النواب في ساحة النجمة في 23 آيار.